16 يناير 2015

حامل الصليب


- كلا، كلا! لا يمكن ان تتركه هكذا... يا دكتور! ابني لا يقو على ابتلاع الطعام. ابذل ما في وسعك. ارجوك!
هكذا كانت تتكلم وهي تخرج بخطى سريعة من غرفة الكشف خلف الطبيب الذي توقف خارج غرفة الكشف. اقترب منها الزوج على استحياء، وربت على كتفها بحنان وتنهد تنهدا عميقا. ظل الطبيب خافض الرأس لبعض الوقت، مظهرا بسكوته ان الوضع صعب. ثم قال بلهجة فاترة:
تعاليا به بعد ثلاثة ايام اذا لم تتحسن حالته. سنجري عندها جراحة لتوسيع المرئ.
ولم لا تجريها الآن؟ الا ترى سوء حالته؟
انها جراحة خطيرة في حالته هذه. لعل الدواء الذي سأصفه له يأتي بنتيجة، من يعلم؟ خذا رقم هاتفي واتصلا بي لو حدث اي شئ طارئ.
قال الزوج: "شكرا يا دكتور"، ثم نظر الى زوجته وقال:"هيا يا عزيزتي، نرجع ونأتي في الموعد الذي حدده الطبيب.".
فصاحت صيحة الغضب:
- آه! لا تقل هذا! انا لا احتمل ان اراه بهذه الحالة اكثر من ذلك!
واتجهت بحركة نزقة الى غرفة الكشف. نظرت الى ابنها بعينيها المتعبتين دون ان تنبس بكلمة. كانت شفتا الفتى المزمومتان ووجهه الشاحب وجسمه الناحل ينبئ بسوء حالته. مسحت برفق على جبهته فخاطبها بصوت خفيض واهن:
- اخبريني يا امي! ماذا قال الطبيب؟
- الطبيب طمأننا عليك ووصف لك دواء.
- ولكننا ذهبنا الى اربعة اطباء اخرين من قبل وليس من نتيجة؟
- ربنا يمد ايده ويجعل الشفاء في هذا الدواء.
غادروا المستشفى. كانت الام خلال هذه الايام الثلاث تنتقل بين اليأس والرجاء. وكانا الاب والام لا يكادا ينامان اكثر من ساعة ونصف في اليوم، فبين الحين والاخر يغفو كلا منهما بعض الدقائق خلال النهار ومثلها في الليل. وكانت الام تركع مرات كثيرة امام ايقونة كبيرة (ايقونة العذراء وهي تحمل ابنها) وتدعو له بالشفاء. وكانت هناك ايضا الى جانبها لوحة مدون بها الاية التي تقول: تعالوا الي يا جميع المتعبين وانا اريحكم.
كانت تصلي وهي واقفة امام الايقونة واضعة في صلاتها جميع عواطفها وخلجات قلبها. ومع شعورها، في اعماق قلبها انها حين تصلي لن تنقل الجبل من مكان الى مكان، وان الله لن يفعل كما تريد بل كما يريد. هي تعلم ان الصلاة تعينها ان تتقبل ارادة الله. وان ارادته –تبارك اسمه - صالحة حتى وان بدت لها انها ليست كذلك. لذا فكانت تصلي وتتلو صلواتها المعروفة، والتي كانت ترتجلها بحماسة شديدة.
اما امير البالغ من العمر 23 عاما ويحلو ان يسمي نفسه "حامل الصليب" فقد كان يعاني من مرض "ضمور العضلات" منذ عشر سنوات، وخلال الثلاثة اشهر السابقة كان يجد صعوبة في بلع طعامه بشكل ملحوظ. اما في هذه الليلة والتي سبقت انتقاله للسماء فلم ينم بل كانت روحه متيقظة تماما، لذا فقد اخذ يناجى الله بحديث هامس خلال ساعات الليل الطويلة. حديث عميق لا يعرفه سوى النساك في البراري او العلمانيين في لحظات حياتهم الاخيرة حين تنقطع صلتهم بالعالم وتقترب ارواحهم لتلتقي بالله. لم يتأوه على الرغم من الآمه حتى لا يزعج والديه. كانت روحه هادئة صافية اصقلتها مدرسة الالم والمرض على مدى سنوات عديدة. قل احدهم "ان الانسان يعيش على سطح الحياة الى ان يأتي الألم فيجعله يختبر عمق الحياة". 
كان امير كان يردد عبارات كثيرة من الكتاب المقدس في صورة صلاة مثل:
شكرا لك يارب فقد منحتني حياة ورحمة وحفظت عنايتك روحي.  
شكرا لك يا من رعتني منذ وجودي.
احمدك من اجل اني قد امتزت عجبا.
عجيبة هي اعمالك ونفسي تعرف ذلك يقينا.
ما اكرم رحمتك فبنو البشر في ظل جناحيك يحتمون. يشبعون من دسم بيتك، ومن نهر نعمك ترويهم.
رحمتك افضل من الحياة.
رحمتك قد ملأت الارض.
رحمتك كثيرة لكافة المستغثين بك.
باركي يا نفسي الرب وكل ما في باطني ليبارك اسمه القدوس.
الذي يغفر جميع ذنوبك، الذي يشفي كل امراضك، الذي يفدي من الحفرة حياتك.
الذي يشبع بالخير عمرك فيتجدد مثل النسر شبابك.
انما رحمة وخير يتبعاني كل ايام حياتي.
اما انا فبالبر انظر وجهك. اشبع اذا استيقظت بشبهك.
كان يجتر ايضا بعض وعود الله الثمينة للبشر:
اذ صرت عزيزا ومكرما في عيني جداوانا قد احببتك.
كراع يرعى قطيعه. بذراعه يجمع الحملان، وفي حضنه يحملها، ويقود المرضعات.
انا اسأل عن غنمي وافتقدها واطلب الضال واسترد المطرود. اجبر الكسير واعصب الجريح.
عدله يحيط بك كالسلاح فلا تخش من خوف الليل ولا من سهم يطير في النهار.
وربما حين كانت تغشاه سحابة الآلآم او حروب الشيطان وما اكثرها خاصة للمتألمين، كان يصلي حسبما علمتنا الكنيسة:
عندما يدخل الينا وقت الصباح ايها المسيح الهنا النور الحقيقي، فلتشرق فينا الحواس المضيئة والافكار النورانية ولا تغطيني ظلمة الالام.
ايتها السيدة العذراء، يا امي الحنونة! عند مفارقة نفسي من جسدي احضري عندي ولمؤامرة الاعداء اهزمي ولابواب الجحيم اغلقي.
انت هي سور خلاصنا يا والدة الاله، الحصن المنيع غير الواقع.
يا سفينة النجاة، يا شفيعة في الخطاة، تشفعي من اجل خلاصنا.
بهذه العبارات وغيرها الكثير كان يصلي امير مستندا على شفاعة امه الحنونة العذراء.
ثم  كانت الساعة السادسة صباحا حين وقف الاب بجوار ابنه المتألم لا يعلم ماذا يفعل. كان امير يتأوه ويقول: "كفى يا رب. اريد ان ارحل الآن". وما هي الا لحظات حتى خرج السر الالهي اما الأم فلم تحتمل فأسرعت الى غرفتها ونظرت بدهشة حولها، وكأنما اختلط عليها الامر ولم تحتملها رجلاها للوقوف فألقت برأسها لا على الوسادة بل على رأس السرير وفقدت وعيها.
رأت في حلم ابنها معافى مبتهجا بخصل شعره السوداء جالسا في مقعده سليما معافى، ففكرت:
ما اسعد الحياة لوكان بجوارى! وما اقساها ان يموت!  لماذا؟ كيف تركه الله يموت وقد صليت له بكل تلك الحرارة؟ واية فائدة رأى في موته؟ أكان يزعج احدا؟ ألم يعلم الله انه كان كل حياتي، وانني لا استطيع العيش بدونه؟ ها انه شاب رائع برئ يعذب فتتحطم حياتي، ولا اجاب على تضرعاتي الا بالموت.
آه! ذلك الجسد المتصلب، البارد.
لكن ها هي تراه مرة اخرى ترك كرسيه المتحرك وهو يمشي الآن نحوها وهو يبتسم:
"آه يا ابني الغالي! لقد اراد الله ان تذوق الالم منذ سنوات عديدة! فلم ارفع صلوات اليه بعد الآن وهي لا تستجاب؟
وفجأة رأت الام جارتها "ام عبد السيد" التي فقدت ابنائها الثلاثة ايضا واحدا تلو الاخر بأسباب مختلفة بعد ان مات زوجها. وكانت هذه السيدة البسيطة سبب بركة لكل "حي شبرا" فكانت بجسمها الناحل الخفيف والمملوء حيوية تزور كثير من البيوت وبكلماتها البسيطة تقوي الركب المرتعشة وتثبت الايدي المرتخية و تغيث المعي. بل ان الكثيرات كن يجدنها وقت الحاجة –بطريقة عجيبة- تقرع على ابوابهن وتقدم لهم عونا في حينه، سواءا بكلماتها المشجعة، او العون المادي مما حدا بالكثيرين ان يعطوها اموالا بسخاء وهي بدورها كانت توزع ما يصل ليدها و لذا فقد لقبنها بـ "ام الغلابة". ولكن ام الغلابة تظهر الآن في صورة ملاك، وفكرت اذا كانت ملاكا فكيف لا يكون لها جناحان في ظهرها.
بيد انها تتذكر شخصا - لا تذكر من هو،  لكنه شخص جدير بالثقة – قال لها ان هناك ملائكة بلا اجنحة.
وتقول ام الغلابة:
ينبغي لك الا تغضبي من الله.
نعم اعلم ذلك جيدا، لكن لماذا لا يستطيع ان يستجيب لصلاتي عندما اطلب شئ صالح؟ انني فقط اطلب ان يعيش ابني، فأنا لا استطيع العيش بدونه؟
واحست كأن ابنها الحبيب اتى من خلفها وطوق عنقها بذراعيه وفكرت وهي تحس بمشاعر محبته الدافقة: آه، ما اجمل هذا!
وتمضي "ام الغلابة" تقول بكلماتها البسيطة: 
قد يحدث ان شخصا غنيا يصيب تجارته الكساد او يفقد امواله لاي سبب اخر وبسبب ذلك تعتاز اسرته حتى الى القوت اليومي. ولا يتدخل الله لأنه يعرف ان هذه المصيبة ستفيدهم. انهم لا يرون المصيبة اما الله فيعلم انهم اذا استمروا في رخائهم فسوف يصبحون فاسدين.  
فكرت: هذا صحيح. فكم من شخص افسده الغنى. لكني لا اسألك عن الغنى والفقر بل لماذا ولأية غاية اخذ الله ابني مني؟
واذا بالام ترى ابنها يلتف ويبدو امامها حيا في ثياب ناصعة البياض، وتصغي الى ضحكاته الجميلة الفاتنة الرنانة مثل جرس رخيم الصوت.
فتقول في لهجة اسفة: اه، يا ابني، لماذا رحلت عني؟ انا لا احب الله لأنه فعل هذا بي! أنا لا احبه على الاطلاق!
- ما هذا الذي تقولينه؟
لم تعد ام الغلابة تتحدث اليها، بل غدا هناك صوتا اخر يتكلم اليها بطريقة خاصة وكأنه يأتي من داخلها. انه يقول:
ايتها الام البائسة، العمياء الجاهلة، المتكبرة. انت ترين ابنك كما كان منذ ايام باعضائه الغضة وشعره الاسود الفاحم وكلماته الرقيقة. لكنه هل كان دائما هكذا؟ لقد مر وقت كنت تفرحين فيه عندما كان طفلا رضيعا يقول: "ماما، بابا" وقبل ذلك كنت تنتشين عندما كان يحبو ثم عندما كان يقف على قدميه بجهد ويتأرجح وقبل ذلك عندما استطاع ان يلقم الثدي ويشد عليه بلثتيه الخاليتين من الاسنان، وقبل ذلك عندما سمعتيه وهو يصرخ مستفتحا رئتيه. وقبل سنة من ذلك، عندما لم يكن موجودا بعد، اين كان؟ انتم تظنون جميعا انكم لا تتغيرون وانكم لابد ان تظلوا على حالكم دائما. لكن،لا تمر ثانية دون ان تتبدلوا. انتم تجرون الى الموت الذي سيأتيكم عاجلا او آجلا. فكيف لا تفهمين انه منذ ولد لن يبقى لحظة على حاله؟ وكما انه اصبح رضيعا من لاشئ ثم طفلا ثم شابا سيصبح رجلا ثم شيخا لو بقى في الحياة ولكنك تتجهلين ماذا سيحل به؟
وترى الام في مطعم مضاء اضاءة باهرة (لقد صحبها زوجها يوما الى مطعم مشابه)، طاولة عليها بقايا عشاء فاخر، وامامها عجوز ، متغضن، كريه المنظر.
صرخت الام صرخة استفظاع وهي تنظر ال الشيخ البشع وهو بشع بالذات لانها رأت في تعبيرات وجهه شيئا بذكرها بابنها وفكرت: لحسن الحظ ان هذا حلم. فابني الحقيقي ها هو". وتدير رأسها لترى ابنها الشاب يقف امامها بثيابه البيضاء ويقترب منها ليطوق عنقها بذراعيه الفتيتين. قالت في نفسها: "نعم، هذا امير ابني، وليس ذلك الشيخ الكريه".
عند هذه الكلمات، استيقظت وعادت الى الحقيقة المروعة التي لا يمكنها ان تتجاهلها. ذهبت الى الغرفة التي يضطجع ابنها فيها. صوبت عيناها اللتان اشبهتا بركتان من المياه المتدفقة اليه، ثم اطبقت بشفتيها الساخنتين على جبينه البارد، وهي ترسم علامة الصليب وقبلت يداه المضمومتان وفجأة تذكرت قبلتها له الليلة الماضية فيخنقها النحيب وتقبله مرات ومرات وهي تبكي. انها تبكي وليست دموعها دموع اليأس بل دموع الاستسلام لقضاء الله المحتوم. انها تتألم لكنها لا تثور ولا تشكو. انها تعلم ان ما وقع لابد ان يقع.
كان احد اصدقاء امير قد حضر على الفور حين سمع الخبر. قال للأم المكلومة:
  انك مؤمنة بقضاء الله. فلا تدعي دموعك هذه تحزن الراحل الكريم.
واضاف وهو يمسح دموعها التي اغرقت وجه ابنها بمنديل ورقي: هذه الدموع ستزعج روحه. انه سعيد الآن وهو ملاك طاهر. استراح من الامه.
قالت الام:
- صيح، صحيح، لكن هذا مؤلم، مؤلم مع ذلك. 
***
 اعد صندوق الدفن، وكان زهاء اثنى عشرة فتى في المرحلة الثانوية ممن يخدمهم امير في مدارس الاحد، مع بعض الجيران ايضا قد تجمعوا. هذا منظرا رهيبا.
سجي الجسد في صندوق مؤطر بافريز ابيض وعليه صليب ذهبي كبير. وكانت يداه مضمومتين وعيناه مغمضتين. اما وجهه الناحل فلم يكد يعرف تغييرا. ومن العجيب ان جثمانه انبعثت منه روائح ذكية، وكان التعبير المرتسم على وجهه الهدوء والسلام العميق. وكانت يداه المضمومتان الى صدره جميلة جمالا خاصا، وقد وضعت ازهارا في راحتيه وغطى الصندوق من داخله وخارجه بالازهار التي كان قد ارسلها احد المحبين منذ الصباح الباكر. كان الاب يمسك بيديه باقة من الزهور وقد بدأ ينثرها على جسد ابنه الحبيب، ولم تكن به رغبة الى الالتفات الى احد، حتى الى زوجته التي ما فتئت تخاطب ابنها وهي تنتحب وتتأوه: الى اين تمضي يا امير؟ ثم طفقت تلقي بنفسها على الصندوق وتحتضنه وتقبله قبلات نهمة متصلة، والنسوة حولها يجذبنها بعيدا عنه. وكذلك كان حال الاب الذي تشبث بالصندوق بقوة. ولما رأى الشباب الحاضرون ان الوالد المفجوع يرفض ترك ابنه، مع ان الوقت قد حان لنقله، احاطوا بالصندوق من كل جهة وبدأوا يرفعونه.
وكانت المسافة الى الكنيسة غير بعيدة لا تزيد على مائتي متر وكان الطقس صافيا لكنه بارد. وكانت اجراس الكنيسة لا تزال تقرع، وقد اخذ الاب المكلوم يعدو خلف الصندوق مضطربا، وكان ملتفا بمعطفه الاسود، وقد بدت عليه الحيرة والقلق فكان تارة يمد يده ليساعد في حمل الصندوق فلا يزيد على ان يعرقل الذين يحملونه، وكان تارة اخرى يعدو الى جانبهم محاولا ان يأخذ مكانا له بينهم. وقد سقطت زهرة من الصندوق على الارض فأسرع يلتقطها، وكأن مصير العالم كله مرهون بتلك الزهرة.
ثم صاح فجأة بلهجة الحزين اليائس: قطعة الخبز! نسيناها. ولكن الصبية ذكروه ان قطعة الخبز في جيبه. واذ اخرجها عاد الى اطمئنانه.
وقال موضحا الامر : هذا ما اوصاني به امير، فقد كنت اجلس جانبه ذات ليلة واذ به يطلب اليّ قائلا: ابت، بعد ان يهيلوا التراب على قبري، انثر فوقه فتات الخبز لكي تأتي الطيور ، وسأسمع صوتها وافرح.
فقلت: انها فكرة حسنة فيجب ان نكرر فت الخبز على القبر.
فبادر الى القول وكأن الفكرة قد ابهجته: "بل كل يوم! كل يوم!".
واخيرا وصلوا الكنيسة. ولدى مرورهم امام الام، توقفوا وخفضوه لكي تستطيع توديع ابنها، غير انها ما كادت تراه، حتى اخذت ترتجف، وتهز رأسها بعصبية فوق الصندوق.
وقد صاحت بها جاراتها : ارشمي شارة الصليب فوقه. ولكن رأسها ظل يهتز كاهتزاز الالة، وتشنج وجهها الذي بدا ينطق بحزنها العظيم، واخذت تضرب صدرها بقبضة يدها، وهي صامتة تماما. وعندئذ ابعدوا الصندوق عنها. اما اخت امير التي تكبره بعامين، فلما مروا بالصندوق امامها، مالت على الصندوق تقبله.
وضع الحاملون الصندوق امام الهيكل بطريقة تجعل الوجه ناظرا للشرق، ووضع اثنان من الشمعدانات فوقه، احدهما عند الرأس والاخر عند القدمين. وقد عرف الاب بعض الهدوء وفي تعبير وجهه علامات الذهول والحيرة اثناء الصلاة. بينما لم تتوقف الام عن البكاء طوال صلوات الجناز وكانت الدموع تنهمر على وجنتيها انهمار السيل. وعندما حان اخيرا موعد الصلاة الختامية كانت قد اعيت من البكاء فاخذت تشنج نشيجا متقطعا.
بعد تلاوة الانجيل انضم الاب الى جوقة المرنمين وهم يرددون لحن "قدوس الله" وكأنه ملاك من الشيروبيم، ولكنه انقطع عن متابعتهم بعد لحظات فقد اثر فيه نغمات اللحن الحزينة وتهاوى على المقعد فقد احس بالدنيا تدور به وعجزت رجلاه عن حمله. وحينما حان وقت حمل الصندوق افلت لصوت بكائه العنان وبسط ذراعيه فوق الصندوق وكأنه يرفض ان يفارق ابنه وطفق يطبع قبلات عليه، قبلات نهمة متصلة واخيرا افلح الحاضرون في ابعاده عن الصندوق، لكنه مد ذراعه فجاة بحركة غير شعورية باتجاه الصندوق واختطف منه بضع زهرات وراح يتأملها وكأن فكرة جديدة انارت عقله، حتى بدا جليا انه نسى حزنه دقيقة من الزمن. وانغمس تدريجيا في تأمل عميق. لقد تذكر قصة قديمة تقول ان خادما للملك اقتطف بعض الازهار من حديقة القصر ووضعها في اصيص جميل وعندما ابصرها الملك وكان حزينا على وفاة ابنه بدأ يدب في فؤاده الراحة والتعزية وهو يشتم رائحتها العبقة. مما شجع الخادم ان يقول للملك: يا جلالة الملك ان كنت لم تحزن لاني اقتطفت هذه الازهار من حديقة القصر بل على العكس قد ابتهجت برؤيتها في قصرك، افتحزن لأن الله - تبارك اسمه- ضم اليه ابنك الحبيب وهو ما زال في عمر هذه الزهور ليسكن معه في فردوسه الرحيب؟
كانت مقابر العائلة غير بعيدة عن المدينة. عندما وصلوا الى هناك طفق العمال في المقابر ينزلون الصندوق في القبر. والذي بالمصادفة كان يقع امام قبر دفن فيه احد الشباب في مثل عمر امير منذ شهر. كان الاب لا يزال يحمل الزهور في يده. وقد بلغ انحناؤه باتجاه القبر ان خاف بعضهم سقوطه فيه فأمسكوا بمعطفه وجذبوه الى الوراء، وبدا عليه انه لم يفقه كل ما جرى حوله. وعندما اغلقوا القبر اشار بغتة بحركة تنم عن القلق ودمدم بكلمات غامضة لم يستطع احد ان يفهمها، وعندما ذكّره احدهم بقطعة الخبز اضطرب اضطرابا عظيما، واخرج قطعة الخبز من جيبه وبدأ يفتها وينثر فتاتها فوق القبر وهو يتمتم: "هلمي ايتها العصافير، اهبطي وكلي وغرّدي بصوتك العذب لابني الحبيب".
  وقد لاحظ احد الشباب ان وجود الزهور في يديه كان يعيقه عن فت الخبز، فاقترح عليه ان يحملها عنه ريثما يفرغ من هذا العمل، لكنه ابى ان يسلمها الى احد بل ان الفزع بدا عليه وكأنهم كانوا يريدون ان يسلبوه الزهور.
كانت الام تستند على خطيبة ابنها الاكبر وهي تبكي بكاءا تتقطع له نياط القلوب والدموع السخينة تنهمر كالمطر من مقلتيها وهي تنادي على ابنها وكأنها تتمنى ان ينهض من قبره وتضمه الى حضنها ثانية.
بعد ان القى الاب نظرة على القبر وكأنه اطمأن الى ان كل شئ قد تم، استدار فجأة، وهو يهتف بزوجته والغصص تقطع صوته: اليك هذه الازهار التي طلبتيها. انها ستبقى في منزلنا لتذكرنا بابننا الحبيب.
وفي المساء وفد المعزين الى قاعة العزاء بالكنيسة لتعزية الاب والام المكلومين. وقف احد الاصدقاء وبدأ كلامه بالقاء بعض الابيات الشعرية للتعزية، كانت تقول:
من فوق الرب بص على اولاده،
ونفخ فى القلوب الميتانة.
عزى ولمس . الجرح التأم.
داوى القلوب المكسورة.
طرد الحداد اللي منه مأسورة.
بالحب اقتحم. ففاق الولاد،
قاموا من اليأس والرقاد.
والكل عاد بروح جيدة ورجلين شداد.
شال من الفكر السواد.
رجع الامل وانتعش.
وحش الحزن كش وانكمش.
عاد السلام للقلب فابتسم.
ولما عاد السلام، شاف معنى جديد للألم.
نقى شعور الانسان. خلق رجولة ايمان.
قوى الحمل الاكتاف. ثبت في الارض القدم،
فعلى وعلى فوق الحدث والخبر.
وفاز في الموقعة وعبر.
وصاغ من الالام والوجع،
ترنيمة تتقال بلحن ونغم.
ثم تابع كلامه قائلا: ان افراحنا في العالم تشوبها الاحزان واننا لنواجه الحياة بعينين احدهما ضاحكة والاخرى باكية. فكأن السرور وسط المأتم، وكأن الاسى يغشي العرس، وقد تساوى الفرح والكدر في كفتي الميزان. ان امير الفتى الطيب العزيز الغالي على قلوبنا جميعا حمل صليب المرض لسنوات عديدة دون كلل والآن لقد استراح. لنحرص على ان لا ننساه ولتظل ذكراه حية في قلوبنا دائما وابدا. اوه ما كان اعظم حبنا له! انه ضيف عزيز قدم الى الحياة ورحل عنا سريعا. وتركنا في هذه الحياة المليئة بالالام والمشقات، ولكن اياكم ايها الاحباء والخوف من الحياة! ما اجمل الحياة حينما يحقق فيها الانسان عدلا وخيرا، وحينما تمتلئ بالكفاح والامل.
كانت الدموع تلمع في عيون الكثيرين وهو يختم بحماسة قائلا:
لتعش ذكرى امير الى الابد! يقينا سنلتقي بعضنا بعضا في الفردوس، وسنقص على بعضنا بعضا ونحن سعداء، كل ما حدث لنا في حياتنا. ما اروع هذا! والآن فلنمض في درب الحياة بروح الرجاء الذي لا يعرف الوهن بل ونبعث الثقة في نفوس من حولنا بالكلمات المشجعة.
فردد البعض من ورائه بصوت هامس: نعم، امين.