19 يناير 2015

آزان بلا اذان



"عمل اليدين" من الانشطة الاساسية في حياة الراهب: البعض يعمل في الزراعة والبعض مسؤول عن صناعات متعددة، كما انه يذكر في التاريخ ان وادي النطرون بمساحته الهائلة كان عامرا بالاديرة، وكان يدعي باسقيط الرهبان، بل ولقد اطلق على بعض الاديرة في ذلك الوقت اسماء بالنشاط الاساسي الذي تمارسه، مثل "دير الزجاج"، اما عن ضفر الخوص فيبدو من كتاب "بستان الرهبان" انه كان يمارس في كل الاديرة. 

ذهب مختار لقضاء فترة خلوة روحية في احد الاديرة. عند الظهيرة دفعه حب الفضول ان يتجول في ارجاء الدير. وجد نفسه فجأة - بعد ان سار قليلا في طريق غير ممهد - امام مبني بدا من الخارج انه يتكون من ثلاثة غرف. حينما دلف الى الداخل وجد نفسه محاطا بكمية كبيرة من الاواني الفخارية ذات الالوان والاشكال والاحجام المتباينة. رائحة الطين المبلل حديثا بالماء تمتزج مع رائحة الدخان النفاذة التي تحمل عبق اشتعال فروع حطب القطن وبوص الذرة الجاف وتملأ الهواء. كان الدخان الاسود يتصاعد في غرفة الحريق مثل مارد مهول يتسلق الجدران ليصبغها بسواد ثم يتلوى منفلتا بسرعة من فتحات خاصة صنعت خصيصا لذلك.

القى مختار التحية:

-     اغابي يا ابونا.

-     اغابي يا ابني.

- ماذا تصنع يا ابي؟

دون ان تتوقف يداه او رجلاه عن العمل قال:

-     تفضل! ادخل لكي تشاهد بنفسك.

كانت عينا مختار الدامعتين المغبشتين جراء الدخان تجولان ارجاء المكان تتفحصانه. وصوت طرقات ثابتة تناوش برتابة اذنيه. هذه الطرقات الصادرة من ضربات قدم الاب الراهب تثابر في التحرك بانتظام وبزاوية ميل حتى يواصل الدولاب الخشبي الدوران الهادئ الثابت السرعة. انها اصابع فنان حقيقي تعمل بدأب على كتلة طين الموضوعة على القرص المتحرك، تعمل بحنكة وبحذق بالغين، فتارة تداعب بحنو بالغ بعض المناطق الطرية لتشكلها بهدوء، وتارة تضغط بقسوة محسوبة على جزء غليظ لتحدد انبعاجا مقصودا. تارة تتحرك ببطء ثقيل لتصنع حلية معينة متقنة، وتارة تنزلق بخفة سريعة لتحدث استدارة يتطلبها العمل. ودائما كذلك ما تنفض بين الحين والحين بقايا الطين الزائدة او غير المفيدة لها الان في حوض كبير، لا لكي ما تلقيها كنفاية، بل لكي تعيد تشكيلها في عمل اخر.

لبعض الوقت ظل مختار واقفا يرقب الراهب، قطع صمته الاب الذي رفع رأسه واشار بها تجاه الغرفة الاخرى قائلا:

-  -   ادخل، فكثير من المنتجات بالحجرة الاخرى ايضا.

كانت الغرفة الاخرى تمتلئ باواني مختلفة الاشكال والاحجام. فهذا اناءا على شكل كوب كبير خفيف الوزن ذو نقوش بديعة مختلفة الالوان، وهذا اناء اكبر حجما ذو شكل كروي كثير الثقوب ذو فتحات علوية وسفلية حتى يوضع فيه مصباح يوضع في الارض او يمكن تعليقه على الجدار. وهذا اصيص ضخم الحجم ذو حواف سميكة متعرجة ونقش افريقي، يمكن ان يستوعب نبات كبير متشعب الفروع كثير الاوراق يصلح وضعه في مدخل احد القصور او المباني العامة الفخمة. وذاك  زير كبير توضع به المياه. هذا بالاص يعتق فيه الجبن المملح. وفي هذا الركن كان يصطف عددا من القلل يستخدمها بعض اصحاب المحلات للشرب حيث توضع بها المياه في الصيف فيشربون منها ويشرب المارة ايضا فينعمون بالماء البارد. 

ولكن شيئا ما جذب انتباه وجعله يدقق في ذلك الاناء الكبير، للوهلة الاولى لم يعرف ما هو او فيما يمكن استخدامه، فهو جسم كروي ضخم وله رقبة ضيقة متوسطة الطول تنتهي بفوهة صغيرة وبلا اذان تماما، ويعلوه كمية فظيعة من الاتربة. احس فيه بشئ غامض. اراد ان يمد يده ليمسك به ولكن يبدو انه خشى ان تتسخ يداه او ملابسه الثمينة فلم يفعل. ويبدو ان الاب لمح من مكانه امام الدولاب بداية اهتمامه بالاناء فقال:

-     -  انه اناء جيد لحفظ النبيذ او زيت الميرون اللازمين للتقديس قديما.

-    -  ثم ابتسم وهو يقول "انه يدعى آزان رغم انه بلا أذان"، وتابع كلامه قائلا: استعماله نادر حاليا. انه مصنوع من خامة ممتازة وهو غالي جدا عندي، وكذلك عند من يعرف فائدته وقيمته الاصلية، لا تكترث بما يعلوه من اتربة.

-     -  وكيف يحمل هذا الاناء يا ابي ان كان بلا اذان؟

-    -  نهض الاب واخرج من احد الادراج بمكتب عتيق رباطا جلديا عتيقا اسود اللون ومضفرا بطريقة بديعة تتخلله صلبان بيضاء عديدة وقال: هذا الرباط يوثق باحكام من حوله ومن ثم يمكن تحريكه وحمله بسهولة شديدة.

انحنى مختار عليه ومد يده نحو الاناء، لمسه برقة. احس انه يعرفه تماما ومنذ زمن طويل. دارت يداه تتحسس جوانبه برقة. اضطر بعد لحظات ان يجثو على ركبتيه على الارض بجانبه – غير عابئ بالتراب- كي يستطيع ان يراه بدقة، وحينما عاد الى غرفته ببيت الخلوة، خاطر له هذا الخاطر:

كلانا اناء فخاري، صنعتنا يدا الفخاري الاعظم. لم يهتم بنا احد. ولكن يداه في ملء الزمان امتدتا بحنان لتزيل اتربتي وتمسحني وتنظفني، وغاص في تفكير عميق- لقد شعر في تلك اللحظة ان يدا المسيح تحمله بحب فائق ويقول له: انك اناء خاص بي. اناء عزيز في عيني، ثمين عندي، غير محتقر ولا مهمل. بل شعر به يحمله في حضنه وهو يقول: لقد صنعتك يدايّ لهدف عظيم وهو ان تحمل نبيذي داخلك طوال حياتك.