25 نوفمبر 2014

ليئة


احبته من النظرة الاولى. ولكن قلبها كان يعرف الحقيقة، انه لم يكن لها اية فرصة للزواج به والحياة معه، على الاقل بسبب اختها الصغيرة الجميلة راحيل والتي يرغب الكثيرون في الزواج بها بينما هي تعرف ان عيناها الضعيفتان جعلت حظها من الجمال سئ.
في ذلك اليوم، كانت جالسة ممتقعة الوجه، عندما جاءها والدها وربت على كتفها في حنان بالغ قائلا:
ليئة، يا صغيرتي المحبوبة، ألن تخبري اباك عما بك؟
اجهشت ليئة في البكاء وراحت تقول بكلمات يقطعها شهيقها: آه، يا ابي. اتركني وحدي ارجوك، اتركني وحدي".
وادارت ظهرها لتخفي دموعها التي ملأت وجنتيها من ابيها الذي ظل واقفا واضعا يده على كتفيها. ثم قال مرة اخرى: انت تحبينه. أليس كذلك؟
كان لابان يعلم ان ابنته لا يرغب احد في الزواج منها وقد تقدم بها العمر، كما لم يعد يحتمل بقاءها في المنزل ولذا استغل الفرصة ليقنع ابنته بخطته.
التقطت ليئة انفاسها ولكنها مازالت تلهث وتشنج وظلت في صمت للحظات. ثم فجأة انفجرت في البكاء مرة اخرى. وقفزت بسرعة ورمت بنفسها في حضن ابيها، وصرخت: ابي، اه يا ابي. انا بالفعل احبه. ولسوف احبه للابد. لكنها هي من ستتزوجه.
ثم تابعت كلامها وهي ترتعد من الانفعال، حتى ان كلماتها كانت نصف مفهومة، وضاق نفسها واخذت تشهق، واختلطت تعابير وجهها وهي تقول: لسوف اذهب انا لقبري كخادمة عجوز وحيدة. آه، لا استطيع تحمل ذلك. لا استطيع".
كانت كطفلة صغيرة، تنتحب بين ذراعي ابيها، بلا كبرياء، تنتحب على سبع سنوات من الحزن المكبوت، ثم حين هدأت قالت: يا ابي، ابي، ماذا افعل؟.. ماذا افعل؟ – قالتها مرارا وتكرارا حتى ماتت الكلمات واستسلمت لبؤسها.
 قال لابان: انا هنا يا حبيبتي. انا هنا. لا تبكي. ابيك هنا. كل شئ سوف يكون على ما يرام. اعدك بأن كل شئ سيكون على ما يرام.
بطريقة ما اقتربت ليئة من تصديق ابيها. وشيئا فشيئا توقف النحيب. بل لقد نامت جيدا في تلك الليلة، وهي التي لم تستطع النوم الليلة الماضية من كثرة التفكير.
في صباح اليوم التالي اخذها والدها جانبا وهو يريد ان يخبرها بخطته. بدأ كلامه قائلا: ليئة، هل تريدي ان ازوجك ليعقوب الاسبوع القادم؟
ما هذا يا ابي؟ هل تسخر مني؟
ثم اندفعت تجري تجاه حجرتها، لكن اباها سبق فأمسك بذراعها، ثم قال: لا يا ليئة. انا اعني ذلك. ولقد دبرت الامر. سوف يقام العرس كما اتفقنا ورتبنا، ولكن في الليل سوف تذهبي الى سرير الزفاف، بدلا من راحيل، وسوف يكون كل شئ تحت ستار الظلام، ولذا فلن يعرف يعقوب ذلك حتى صباح اليوم التالي، حينها سيكون الوقت قد فات على الاعتراض او فعل اي شئ.
لا، يا ابي. لا استطيع فعل ذلك. فهو لن يغفر لي البتة. بل وسيكرهني ايضا.
حسنا. انا اعرف انه سيشعر بالضيق، ولكن ذلك سيكون لبعض الوقت فقط. ولكن الامر يعتمد عليك. يمكنك ان تثبتي له كم انت زوجة رائعة، وسينسى اننا خدعناه بمرور الايام.    
ولكن يا ابي...
قاطعها لابان: يمكنك ان ترفضي وتتركي راحيل تفوز به. وستكونين – كما وصفت نفسك سابقا – الخادمة العجوز طوال حياتك. ولكن اذا كنت تريدين يعقوب بحق، فقد اخبرتك كيف تحصلين عليه. 
ولكني خائفة يا ابي..
بدا لابان ساكنا هاجعا لبرهة كجذوة تحت طبقات الرماد. ثم قال بحدة: انا اكره الخوف. اكرهه لانه يحول الانسان الى حشرة تبحث عن جحر امان. اريدك يا ابنتي قوية. قوية وناهضة كشجرة لا تكسرها الريح.
راحت لابان تسمع الخطة من ابيها وقاطعته عدة مرات تظهر له بعض الثغرات التي فيها ولكنها كانت تجد لديه ردودا لكل شئ. لذا فقد اتفقت معه في نهاية المطاف. كان كل ما يهمها ان تحظى يعقوب بأي طريقة.
جاء اليوم التي انتظرته ليئة. امتلأ المنزل بصخب وارتباك الاستعدادات النهائية لحفلة العرس.  ثم في وقت متأخر بعد الظهر دخلت ليئة للاستحمام وتغيير ملابسها وتزينت – على اعتبار انها اخت العروسة – ولم يلاحظ احد تبرجها سوى ابيها. عند الغسق كان هناك موكب حيث ركب يعقوب مع اصدقائه وتجولوا في جميع ارجاء البلدة كاعلان عن العرس ومن ثم عادوا الى المنزل ثانية. وبعد ذلك اولم لابان وليمة مليئة بالاطعمة لكل اهل البلدة الذين جاءوا لحضور حفل العرس. وامتلأ الجو بالصخب والغناء والرقص.
واخيرا، جاءت اللحظة المصيرية. جلس يعقوب وراحيل كل في خيمته في انتظار لحظة الزفاف. ولكن كنت انا التي زفت الى سرير يعقوب، تحت جنح الظلام (ولم اعلم ماذا صنعوا براحيل). جلست على الفراش في البداية خائفة حذرة. ولكن لم يتبين يعقوب الخدعة. لقد خدع بلهفته ورغبته وصوت ليئة المشابه لصوت شقيقتها راحيل. واظهر لليئة حنان وعاطفة بلا حدود.
فكرت ليئة وهي تستعيد ذكرى عرسها: آه من ذكرى تلك الليلة التي لا تزال تداعب خيالي! ولكن يا لها من فرحة لم تكتمل! فبعد وقت قصير انسل ضوء النهار الى داخل خيمتنا واستيقظ يعقوب من نومه وبدأ في معانقتي وضمني اليه ثم فتح عينيه ورآني.
من انت؟- صاح يعقوب لاهثا وقفز من السرير ووقف صارخا في وجهها: ماذا تفعلين هنا؟
انا، انا...
اجيبيني يا امرأة. اجيبيني بسرعة.
انا، انا.. – ثم ولت ظهرها واجهشت في البكاء ثم ما لبثت ان هدأت بعد لحظات و قالت: كيف لي ان اجيب على هذا السؤال؟
لم يكرر يعقوب السؤال مرة اخرى. وبدلا من ذلك لبس ثيابه في غضب صامت وخرج.
اما ليئة فقد تركت وحدها تجتر احزانها بقلب مكسور ملئ بالخجل.
وبطبيعة الحال فقد هرول يعقوب لرؤية لابان والتحدث معه.
ما هذا الذي صنعته بي؟ لقد خدعتني!
لم اخدعك. ولكنها تقاليد عشيرتنا.
اية تقاليد هذه. تجعلك تزوجني بغير من دفعت لك مهرها. 
صمت لابان ثم قال بصوت اجش: لايصلح في قبيلتنا ان تتزوج الصغيرة قبل الكبيرة.
فكر يعقوب في نفسه: لقد اصبحت عالقا بها. لن استطيع تغييرشئ.
ثم قال لابان بتودد محاولا تهدئة يعقوب: اذا ما كنت تريد راحيل بشدة، يمكنك الزواج بها ايضا. اعاهدك انني لن ازوجها لغيرك. لكن يجب عليك ان تنتظر حتى يمر شهر العسل ومن ثم تبدأ في العمل سبع سنوات اخرى من اجل راحيل.
وفكر يعقوب: ان السبع سنوات التي عملتها قد ضاعت باطلا. لقد حسبها لابان كمهر لليئة. لم لا اعمل الان من اجل محبوبتي. راحيل الجميلة. حقا اني اتوق لذلك اليوم الذي فيه ارتبط بها.
ثم قال يعقوب: اتفقنا. سأعمل لديك سبع سنوات اخرى. لكن عليك ان تحفظ عهدك.
رضى يعقوب بنصيبه ومضى لقضاء شهر العسل او هكذا يسمونه. ولكنه لم يكونا هكذا بالنسبة اليهما.
بعد سبع سنوات من العمل في رعي اغنام لابان حظى يعقوب بزواجه الثاني، مع كل مظاهر الابهة والاحتفالات كالاول، فقد رفضت راحيل ان ترضى بأقل من ذلك.
تخلل الاحتفالات بعض المواقف التي تنم عن المشاعر المحتقنة ولكن تظاهر الجميع بتجاهلها . ثم ذهب يعقوب لقضاء شهر عسله الحقيقي مع عروسه المحبوبة.
في مناسبات نادرة كان يعقوب ينظر في وجه ليئة ويدير وجهه بعيدا. ثم يذهب ليقضي الوقت كله مع راحيل تاركا ليئة تجتر الآمها وحيدة. كانت تشتاق اليه وتود لو يبادلها نفس الشوق والحب.
في بعض الاحيان كانت ليئة تلقي باللوم على راحيل، واحيانا على ابيها، واحيانا على نفسها، و في احيان اخرى على يعقوب نفسه. لكن في معظم الوقت كانت لا تلوم الا نفسها.
ذات مرة اخذت تنتحب وهي توبخ نفسها: لماذا؟ لماذا وافقت على هذا الخداع؟ لقد كانت عاقبته هذه الحياة البائسة التي احياها الآن. كيف امكنني ان اصدق انه قد يأتي من خداعي له شيئا جيدا؟، - ولكن حتى في هذه الاوقات العصيبة، في لحظات الندم هذه، كانت تعرف جيدا في قرارة نفسها انها اذا منحت الاختيار كانت ستفعل الشئ نفسه مرة اخرى. وحاولت ان تتجلد فقالت وهي تهوّن على نفسها: الآن ما فائدة الندم. – وبصوت ملؤه الاسى اكملت بعد لحظات صمت وقد وضعت رأسها بين يديها وصارت تنتحب : لماذا جئت الى هذه الحياة؟  لماذا ولدت من بطن امي؟
بعد بضعة ايام احست بألم خفيف في بطنها. ظنت انها ربما كانت حاملا. واذا كان الامر كذلك. اذا كانت حامل بالفعل بطفل يعقوب فربما يبدأ في محبتها. ولذا تشبثت بالامل، وصلت لالهة الاسرة، وانتظرت. لكن سرعان ما تبدد الامل فبعد اسبوع جاءتها عادة النساء.
كانت هذه هي احلك ايام حياتها. لم تكن ليئة تعرف شيئا عن الله من قبل. لكنها سمعت من يعقوب وهو يحكي لاسرتها في مواقف قليلة عنه. كان يحكي بعبارات عامة جدا. وبرغم قلة ما كان يحكيه، الا انها كانت تتذكره جيدا. وتملكها شعور قوي بأن اله يعقوب اكبر واعظم من باقي الالهة التي يعبدها شعبها وعائلتها، ولسبب ما شعرت ايضا ان هذا الاله العظيم قد احب يعقوب، ولذا فربما يهتم بي ويعطي يعقوب نسلا من خلالي. لذلك صليت قائلة:
يا اله يعقوب، انا لا اعرف الشئ الكثير عنك، لكن اذا كنت كبيرا وقويا وحكيما كما يعتقد يعقوب، فانت تعرف مقدار البؤس الذي مررت به. لذا رجاءا، اجعل يعقوب يحبني واجعلني انجب له اطفالا. ولسوف احبك واكرمك طوال حياتي.
مرت اسابيع، لم اكن اعرف ان الله بالفعل قد استجاب لصلاتي. شعرت ان الله قد فعل ذلك من خلال غلق رحم راحيل. ربما كان هذا ايضا صعب جدا عليها.
كان يعقوب يريد ان يرى اولاده. لقد كان يتذكر وعد الله له انه سيباركه هو ونسله.   
"مجدا لله!"، - قالت ليئة وقد اكتشفت بعد وقت ليس بكثير انها اصبحت حبلى. لقد استجاب اله يعقوب لصلاتها، وانتشلها من حالة البؤس الذي كانت تعيشه.  وفكرت في نفسها: "اخيرا اصبح بامكاني ان اعطي شيئا ليعقوب، ومن يعلم ربما يبدأ يحبني".
وبعد تسعة اشهر انتظرتها بفارغ الصبر وصول هذا الطفل انجبت صبيا اسمته "رأوبين" ومعنى اسمه "انظر، ابن". ولم يمض وقت طويل حتى انعم الله عليها بابن ثان سمته "شمعون" ومعناه "يسمع" فقد سمع الله صلاتي، وابن ثالث اسمته "لاوي" ومعناه "يرافق" لانها قالت: "الان سيقترن بي رجلي". وابن رابع اسمته "يهوذا" ومعناه "يحمد" لانها قالت "الان احمد الله".