11 نوفمبر 2014

مذكرات يوسيفوس_2


-4-
دفعني ما حصل اليوم لبدء التدوين اخبار ايام شعبي. تروي شعوب اخرى اساطير تدخلنا في عالم ثان لتتكلم على الهتها. اما نحن اليهود فنروي تاريخنا، ونتكلم على ما يجري حولنا في هذا العالم. ان تاريخنا سلسلة متصلة من المعارك هزائم و انتصارات امام كل الاجناس الكنعانيون، الفلسطينيون في تاريخنا القديم، ثم البابليين، الفرس، اليونان، و اخيرا الرومان. أليست هذه الممالك الاربعة الاخيرة هي الوحوش الاربعة في حلم دانيال النبي4 . و لا توجد حقبة في تاريخنا تماثل حقبة سليمان الملك. انها الحقبة الذهبية في تاريخنا. لا زلت اذكر ما جاء في اسفارنا المقدسة عن ذلك بشئ من الفخر و الدهشة في آن واحد "و جعل الملك الفضة في اورشليم مثل الحجارة"5. هل يمكن ان تعود مملكة داود وسليمان؟ مؤكد، ستعود. فهناك الكثير من النبوات التى دونها انبياؤنا عن مجئ المسيح من نسل داود ليقيم مملكة ابينا داود.
كان بيلاطس قد عيّن من قبل القيصر طيباريوس واليا على اليهودية منذ امد قصير، وكان في بداية عهده اكثر مسالمة مما هو الان. فقد حدث ان ادخل الى اورشليم يوما صورا للامبراطور تستخدم كرايات في المعارك. فأثار هذا في اليوم التالي بلبلة عظيمة عند الشعب كله. كان الجميع مقتنع بأن شريعة الله قد ديست بالاقدام لأنها تمنع رفع الصور في المدينة. اوفد مجلس السنهدريم6 بعض اعضاءه للذهاب الي قيصرية يرجون بيلاطس بابعاد الرايات عن المدينة و باحترام شريعة ابائنا. رفض بيلاطس.
وفي اليوم التالي احتشد سكان المدينة في مظاهرة ضخمة، وتدفق ايضا اهل الريف. واسرعت الحشود الضخمة الى قيصرية حيث قصر بيلاطس، وظلوا هكذا خمسة ايام و خمس ليال دون ان يغادروا اماكنهم. في اليوم السادس جلس بيلاطس على منصة الحكم و سمح بدخولهم ساحة القصر الفسيحة كما لو كان سيعطيهم ردا. و كان قد امر جنوده ان يحاصروهم عند اطلاق الاشارة. وحين وجدوا فجأة ان ثلاث فرق مسلحة تحاصرهم تبلبلوا. هدد بذبحهم ان استمروا في رفض صور الامبراطور، و اعطى اشارة لجنوده ان يستلوا سيوفهم. لكنهم و كأنهم متفقين على ذلك من قبل، رموا بأنفسهم ارضا و مدوا اعناقهم صارخين بانهم على استعداد لان يموتوا بدل ان يخالفوا شريعة ابائهم. صدم بيلاطس من حرارة ايمانهم، و امر بابعاد الرايات عن اورشليم. لقد بدأ بيلاطس عمله باخفاق لم يكن سببه فصيلة مسلحة او محاربين خطرين من المقاومة. و انما اناس عزّل. لقد جرت عليه بداية عمله التعسة هذه كثيرا من المشاكل. بعد ذلك وجب عليه دائما ان يكون حريصا ليحافظ على سلطته.
في عيد الفصح التالي حدثت انتفاضة الجليليين7. كان هؤلاء الجليليين ثوارًا رافضين لملك قيصر، وكانوا أتباعا ليهوذا الجليلي8 الذى تزعم حركة مقاومة وعمل على مدار عدة اشهر لضم الكثيرين الى حركته من الجليل. كان يأمل ان تنجح انتفاضته بانضمام قسما كبيرا من الشعب اليه، وخصوصا ان في الفصح تزدحم اورشليم بالوافدين لحضور العيد، لكن بيلاطس دس عددا كبيرا من رجاله بين الجماهير، رجالا مسلحين وعند الاشارة المتفق عليها انقضوا عليهم فيما كانوا يقدمون ذبائحهم في الهيكل وقتلهم، واختلطت دماءهم بذبائحهم.
أن ما عمله بيلاطس كان عملا خسيسا سبب العداء بينه وبين هيرودس، فهؤلاء الجليليين كانوا من رعاياه، و كان لابد له ان يحميهم. نال الحزن مني، حتى شمس النهار صرت اراها اليوم مطفأة موحشة. لقد غلبني الهم ونال القلق مني، ولم اقم لفترة طويلة بتهذيب لحيتي، وكان وجهي مكمدا. وبعد فترة لم يعد احد يتحدث كثيرا عن الامر، ولكنني لم اكف لحظة عن التفكير به. ثم جاءتني دعوة لعيادة احد المرضى في قيصرية. لم اكن احب قيصرية فيلبس تلك المدينة التى امر ببناؤها فيلبس اخو انتيباس على الطريقة اليونانية مملاءة لقيصر. انها تقع على بعد ثلاث ساعات من اورشليم. وتعج باليونانيين، وكان اليهود فيها قلة وغير محبوبين.
في المساء كنت اتجول في المدينة. وحملتني قدماى الى المجمع هناك. كانت تنير المجمع منارة ذات شموع تلفظ انفاسها. وكان الى جانب حوض التطهير قاعة صغيرة تستعمل كمدرسة للفتيان. كانت الصلوات تتلو بصوت مرتفع. جذبتني صوت الاناشيد، وانخرطت لفترة وجيزة مع المرتلين، لكن لم يبرح من ذهني ذكر حادثة قتل الثوار الجليليين ولم تخف الغصة التي اشعر بها في قلبي. ثم جاءت قراءة النبوات وبعدها تكلم احد الفريسيين المبجلين فتراجعت الى اخر القاعة، و انطويت على نفسي لحظات. وخنقت في صدري زفرة.. ختم الاجتماع بالبركة وانصرف الجميع.
كان الوقت صيفا وكانت بضعة اضواء تنبعث من نوافذ البيوت وتضئ الشوارع الضيقة. سرت حوالي الساعة حتى وصلت الى خارج المدينة، ثم تمددت على الرمل وشددت اهداب عباءتي الى بعضها، و تأملت لحظة القمر وكان بدرا وهو يغمر الطبيعة بنوره الفضي ثم غفوت. استيقظت بعد فترة وكان الليل يلف الكون بغلالة من السكون، توجهت لزيارة صديقي القديم عزريا. انه من بلدتي ولكنه رحل الى هنا للعمل، انه فقير ويعيش وحيدا. بيته يقع في اطراف المدينة، حيث توجد بيوت العمال الذين جاءوا للعمل في هذه المدينة الجديدة. قرعت الباب وحينما فتح ورآني وقع على عنقي وضمّني في شوق شديد وهو يقول:
- اوه يا صديقي العزيز يوسف. يوسف.. ثم اشبع خدي تقبيلا..
- مرحبا. يا صديقي الذي احبه. كيف حالك؟
- بخير. ولم أنت هنا؟ هل كنت في عمل؟
- نعم كما ترى.
- وكيف كان يومك؟
- نشكر الله الذي يدبر معيشة عباده.
- لابد وانك جائع.. سأعدد لك العشاء. انا سعيد انني وجدت من يشاركني الطعام هذا المساء.
ثم غادر الغرفة، بينما جال نظري للحظات في ارجاء البيت. كان يضئ ظلمة المكان قنديل من الفخار موضوع على منارة في ركن من اركانه. كان بيته متواضعا.
بعد قليل دخل عزريا وبيده صينية نحاسية عليها صحفا مملوءة ببعض البقل المسلوق و بضع خبزات من الشعير. تحادثنا قليلا و نحن نتناول الطعام. سكت لحظة. بدا انه تذكر امرا، ثم قال: هل سمعت عن النبي الجديد؟
- لا، لم اسمع.
- انه شخص ناسك يدعى يوحنا ويلقب بالمعمدان، لانه يقوم بتغطيس الناس في الاردن. انه يحث الناس على التوبة وان يعترفوا بخطاياهم. وجموع كثيرة من الناس استجابوا لدعوته وطلبوا اليه ان يعمدهم في الماء.
- وماذا كان يقول لهم؟
- كان يقول يا نسل الافاعي، توبوا لكي تنجوا من الغضب الاتي، فقد اقترب منكم ملكوت الله. لذا اصنعوا ثمرا يبرهن على توبتكم. فاجابه البعض: نحن اولاد الله. اما هو فاجابهم قائلا : "لا تتفاخروا - فيما بعد - بقولكم "ابراهيم هو ابونا". فاني اقول لكم: ان الله قادر على ان يخلق من هذه الحجارة اولادا لابراهيم.
بدت ملامح الدهشة والاضطراب على وجهي. فالفكرة جديدة ولها فعل الصدمة: ان الله عتيد ان يقيم مملكة جديدة لا يكفي فيه انتساب الانسان الى شعب الله المختار لكي يكون مقبولا من الله. بل عليه ان يسلك في حياته، على نحو يجعله مؤهلا لأن يكون احد ابناء هذا الملكوت.
اردف صديقي ان يوحنا ايضا اعلن ان يسوع الذي من الناصرة هو مخلص اسرائيل. وآمن البعض بكلامه و تبعوا يسوع. وهم يحكون عنه قصص في غاية الروعة. سواءا في تعاليمه او معجزاته.
- نعم لقد سمعت بعضها ..وهي بالحق مذهلة!.. كان يسوع يجول في كل القرى يعلم ويشفي المرضى و يخرج الشياطين.. وماذا تريدني ان افعل؟ انا افترض انك لا تعرض علىّ هذه الافكار من اجل متعة النقاش لاغير؟
- طبعا لا . انا اعني ان تذهب وتستطلع الامر.
- ولم لا نذهب سويا؟ .. سأكون مدينا لك باجرة يوم من العمل.
- انا موافق. سأذهب معك.
في المساء امضيت وقتا قبل ان يغلبني النعاس، امحص فكرته، وكانت تبدو لى اكثر صوابا كلما اوغلت في تمحيصها.
عندما استيقظت في الصباح، كنت لا ازال تحت تأثير النقاش الليلة الفائتة. وكان السهاد يضفي شيئا من الرطوبة على عينيّ.
وفي اليوم التالي انطلقنا، وقد امسك عزريا بعصا في يمينيه وحمل كيسا خفيفا على ظهره و سرنا باتجاه نهر الاردن. تركنا الى اليمين القصور الحديثة البناء، و تقدمنا نحو الساحة التى تضم ضريح هيرودس الكبير. وهو بناء روماني يضم تمثالا للملك البدين. سرنا بضعة ساعات وصادفنا فيلقين من الجيش الروماني يبدو انهما كان في طريقهما الى قيصرية. عندما رأينا مخاضة الاردن، ابتسمت اذ بدا لي الشريط الاخضر، وكأنه يتحدى الصحراء. كانت بيت عبرة، نقطة عبور لا غنى عنها لمن يريد عبور نهر الاردن. و الى جهة السهل كان ممكنا للمرء ان يلمح لمعان البحر الميت الفضي عند سفح جبال مؤاب.
كان النبي الشاب يعظ بصوت جهوري. كان بعضهم بعد ذلك يغطسون في نهر الاردن كجزء من طقوس نمارسها للتطهير. كان النبي خلالها يقول: "انا اعمدكم بماء للتوبة. ومن ثم يجب ان تعملوا اعمالا تليق بالتوبة. وحينما يأتي المسيح سيعمدكم حينئذ بالروح القدس والنار".
كان كلامه قويا ومظهره مؤثرا: اعني ثوبه الوبري ومنطقته الجلدية وملامحه التي يظهر عليها بقوة اثار النسك والحياة البرية. امنت بكلامه ومن ثم اعتمدت وكذلك اعتمد صديقي عزريا.
افترقت عن صديقي عزريا في اليوم التالي حيث هممت بالعودة الى الجليل. صعدت بمحازاة النهر وكنت قد نويت على سلوك طريق ائتلاف المدن العشر مرغما وراضيا على مضض بالمرور بالسامرة. احسست عندما وطأت قدميّ السامرة - هذه الارض الملعونة - بقرف. قرف لابد ان يشعر به كل يهودي تقي. كان سكان السامرة في نظرنا نحن اليهود وثنيين بل اسوأ. "ماء السامرة اكثر نجاسة من دم الخنزير" هكذا كان يردد البعض.
التقيت اثناء اجتيازي لصحراء اليهودية رجلين، احدهما يدعى يشوع والاخر حنانيا. قالا انهما تاجران يحملان بضائع الي طبرية، ثم اضافا بانه بوسعي ان اسافر برفقتهما. ووافقت اذ كنت غير راغب في اجتياز الصحراء بمفردي. كنا لا نسير الا في الصباح الباكر و بعد الغروب، ونمضي اشد ساعات النهار سخونة في ظل الصخور.
وفي الليلة الاولى بدأ البرد يشتد، فشد الرجال عباءتهم على اجسادهم. وألقى يشوع حزمة من الحطب على النار فاضاءت واستدفأت اطرافهم المرتعشة. وفي الصباح كانت الشمس تبزغ من وراء جبل نبو طاردة اخر ظلاله، وكان نهر الاردن الذي تلونه ببصيص فضي ينساب في الوادي يحيط به شريطين من اللون الاخضر. وصلت القافلة الى طبرية مساء اليوم الثالث.
اردت اثناء الرحلة ان اصعد الى الجبل، والقي نظرة على السهل، وزرقة البحيرة التي تلمع في الافق، وان اتأمل في جمال جبل حرمون الضخم المتوج بالبياض، وبحيرة طبرية المختبئة بين استدارات الهضاب. بالفعل صعدت، و يا له من منظر بديع حقا! ان طبرية عاصمة هيرودس وهذا الاسم يعلن الولاء لروما ممثلة في طيباريوس قيصر. معظم سكانها من اليونانيين. كانت الشوارع اكثر فاكثر ازدحاما. وكان بعض الناس قد ناموا في كل مساحة خالية، وفي كل مدخل بيت.

-5-
عندما وصلت طبرية ذهبت لزيارة والد زوجتي خوزي. لم يكن موجودا فجلست مع حماتي حنينة بانتظاره يحضر بين اللحظة و الاخرى. تحادثنا فحوّلت الحديث الى يسوع. لم اصدق اذنيّ حين سمعتها تقول انها تسانده، و شرحت الامر لي بدون حرج:
- انني ارسل اليه مالا و مؤونة. اني ازور يسوع لاسمع ما يقوله حين اتمكن من ذلك.
جميع اتباع يسوع الذين التقيتهم حتى الان كانوا من البسطاء. اما حماتي فهي تنتمي الى الطبقة الراقية. لذا سألتها:
- أهناك اخرون من الطبقة الراقية يساندونه؟
- بعض الافراد انه يجد اتباع في كل مكان.
لم استطع متابعة الحديث. فقد سمعنا خوزي يدخل. تصافحنا بحرارة، و عندما جلسنا، عدت الى السؤال مباشرة:
- جميع الناس في الجليل يتكلمون عن يسوع. ما رأيك فيه. اهو نبي؟
اجاب خوزي:
- ان هيرودس انتيباس قلق من هذا. فضميره يؤنبه بعد اعدام المعمدان. و هذا الامر لم يحل اي من مشاكلنا. ذات يوم ادلى بفكرة في غاية الغباء و هي ان يسوع هو المعمدان قام بين الاموات. انه خائف. لقد صار يصدق الخرافات و يؤمن حتى بقيامة الاموات.
- لكن الفريسيين و كثيرين اخرين يؤمنون بها ايضا.
- اما نحن فلا. فانا و هيرودس نتعاطف مع الميول الصدوقية. نحن، الصدوقيون، نؤمن بأن النفس تتلاشى مع الجسد، و نرفض انتظار عالم جديد افضل. لعقيدتنا اتباع قليلون، و هم غالبا من الشخصيات المرموقة. على العكس ينتمي اتباع الفريسيين الى طبقة ادنى. ان يسوع هذا و اتباعه اقرب الى الفريسيين منا.
- لكن الفريسيين لا يشكّلون خطرا سياسيا، و لهم ممثليهم في السنهدريم. انهم يتعاونون مع السلطات. بالطبع، بينهم متطرفون انضموا الى الغيورين. لكنهم حالات استثنائية. اتظن ان يسوع منها؟
- لا! اعتبر يسوع شخص يمكننا نسيانه لو لم يعتبره كثير من الناس نبيا او حتى المسيح. هؤلاء الناس يسببون لنا مشكلة لا يسوع. خصوصا الذي يدعمونه.
احمرّ وجه حنينة و صارت تبلع ريقها. ثم جاء صوتها واضحا:
- ربما لم تكن هذه الافكار بهذا القدر من الجنون؟
عندئذ بدأ خوزي يهيج و ارتفع صوته قليلا:
- افكار حسنة؟ ما الذي يعلنه نبي اخر الازمنة هذا؟
- هل سمعت حكايات يسوع؟.. ان يسوع يقول: العيش بدون هم من حق الجميع، حتى الذين لا يملكون شيئا.
"لذلك اقول لكم لا تهتموا لحياتكم بما تاكلون وبما تشربون.ولا لاجسادكم بما تلبسون.اليست الحياة افضل من الطعام والجسد افضل من اللباس. انظروا الى طيور السماء.انها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع الى مخازن. وابوكم السماوي يقوتها. ألستم انتم بالحري افضل منها؟".
ان يسوع نفسه يقارن البسطاء بسليمان دون وجل، فيقول: "لماذا تهتمون باللباس؟ تأملوا زنابق الحقل، انها ترتدي حلة ابهى من سليمان فان كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويطرح غدا في التنور يلبسه الله هكذا افليس بالحري جدا يلبسكم انتم يا قليلي الايمان. فلا تهتموا قائلين ماذا ناكل او ماذا نشرب او ماذا نلبس. فان هذه كلها تطلبها الامم. لان اباكم السماوي يعلم انكم تحتاجون الى هذه كلها".
انه يدعو الله ابانا و نحن ابناؤه. لم يسمّ احد نفسه ابنا لله من قبل، الا ملوك اسرائيل. لكن يسوع يطلق هذه التسمية على كل الناس.
حاول خوزي ان يغير مجرى الحديث، فمال اليّ مبتسما:
- سألتني منذ قليل هل يسوع من المعارضين و مثيري الاضطرابات. هناك امر واحد ثابت اكيد: لقد جعل امرأتي ثورية.
ترددت حنينة قليلا ثم قالت بصوت خافت:
- لا. انت الذي جعلتني ثورية! حين بدأت بمهاجمة يسوع و افكاره! انك تسعى الى احتقاري يا خوزي.
- كيف؟
- انك تسخر من الاغنياء الذين يرسلون ليسوع مالا و مؤونة!
و ظل خوزي فاغر الثغر:
- اتقصدين انك...
هزت حنينة رأسها موافقة.
تابعت بعد ذلك النقاش بشعور المتضايق الذي فضّل الا يكون موجودا. وما هي الا لحظات حتى استأذنت و تركتهما وحدهما. حيثما حللت يتجادل الناس في شأن يسوع. فيعلو الصراخ بين الاهل و الاولاد، بين الازواج و بين الاصدقاء و بين الجيران و حتى بين جباة الضرائب و التجار.
الليل قد حلّ. هدأ كل شئ، لكن القلق لم يزل عني. ارتميت فوق سريري لكني لم اجد النوم. اصوات كثيرة لا زالت تتردد فيّ. كنت اسمع اصوات حنينة و خوزي، و جابي الضرائب و المتسولين و الاطفال، و صوت باراباس ايضا. استولت جميع هذه الاصوات على احلامي و افكاري. سعيت في طردها و نسيانها بمحاولتي للنوم لكني لم افلح. لانها لم تعد اصوات غريبة، بل اصوات كياني الداخلي، افكاري الشخصية و مشاعري، مخاوفي و امالي. فالجدال حول يسوع كان جدالا فيّ. و النقاش في موضوعه نقاش مع نفسي. لكن ظلت صورته غامضة باستمرار في ذهني. و في الصباح، غرقت في نوم مضطرب.

-6-
في اليوم التالي كان الكثيرون يتراكضون الى جبل حرمون. علمت بسؤال احدهم ان يسوع هناك يعلمهم ثم يشفي مرضاهم. ذهبت انا ايضا لأتأكد من الامر بنفسي. كان يسوع يتحدث من حوله الوف، سفح الجبل مغطى بالناس، رجال.. اطفال .. نساء.
اختار يسوع مكانا عاليا كي يراه الكل، من فوقه يتحدث، تنساب كلماته انسياب النهر في ارض عطشى، يبدو في ردائه الابيض كأنه الوحيد الذي يرتدى رداءا ابيض..لا يصعب على السامع ان يلحظ رنة الالوهة والملوكية تسري في كلماته. كان يبدو كملك يوزع عطاياه، واله يوزع بركاته. لقد تعود الناس على سماع "طوبى للمحسنين" ولكن لم يسمع ان احدا قال قبل "طوبى للفقراء". قد يطلب منا ان نبكي على حالنا و لكن ان يقال لنا "طوبى للباكين" فهذا امر لا يصدق!
الشعب اليهودي معثر والمعلمون استخدموا وصايا الله و ناموسه، ليزيدوا هما على همه، وبؤسا على بؤسه. يسوع هذا كشف عن الوجه الحقيقي للناموس انه وضع ليمسك بيد الانسان ليعبر به من الظلمة الى النور. اقنع يسوع الناس ان الله غني، وغني جدا، انه لا يطلب منا شئا، بل هو يريد ان يعطينا عطايا كانت تبدو بعيدة عنا بعد السماء عن الارض.
الصمت وحده هو الذي يتحدث، الاذان مرهفة، و الرقاب ممدودة نحوه، و العيون مثبتة عليه.. الساعات تمر، و القوم ما زالوا في اماكنهم، بعضهم قد افترش العشب و البعض اختار الجلوس على اعالي الصخور، ويسوع ما زال يتحدث. تلاميذه من حوله كغروس الزيتون، ينصتون كالجمع. بطرس يجلس الى جوار يسوع عاقدا اصابع يديه، راخيا ذراعيه على حجره، و نظره مسلطا الى ما خلف الجموع، حيث مياه بحر الجليل تمنحه فرصة التأمل، اما تلميذه يوحنا فقد سلط عينيه و فكره على السيد و قد مسّ بسبابته شفتيه متفكرا. الذي الى جوار يوحنا هو توما، عيناه تتسعان اندهاشا للقول بين الاونة و الاخرى، و قد مدّ قامته في جلسته نحو يسوع حتى لا تضيع عن اذنه كلمة. انني اعرفهم فهم من بيت صيدا وهي قريبة من بلدتي. و كان هناك اندراوس و ابن زبدي الاخر و اخرون.. وجدت هناك ايضا صديقي باروخ فجلست بجواره. بعد فترة مال باروخ على اذني و همس:
- ألا نذهب؟..
ادرت وجهي نحوه، و لم اجب كأنني لم افقه ما قال، ثم عاد و التفت الى المعلم.
و مرت نصف ساعة اخرى، قبل ان يهمس هذه المرة برجاء:
- يوسف، هيا نذهب، ألم تجع؟
- .... كان قد جاع و احس بالاعياء
- أتريد ان تذهب؟... سنذهب مع الجمع، لا يحسن ان نقوم و السيد لا زال يتحدث، اصبر..
مال احدهم عليّ وسألني: من هذا الرجل الذي يتكلم هكذا بهذه القوة؟ اجبته: "هذا يسوع الناصري بن مريم من الناصرة". عاد وسألني: اين يسكن؟
- يبدو انه لا مسكن له!
- فغر الرجل فاه واتسعت عيناه علامة على الدهشة. فاردفت قائلا: انه يتجول في كل الارجاء يساعد الفقراء و العاجزين، ويعلم الجموع كما ترى.
لقد رأيت اليوم ماضي حياتي كدرج مفتوح امام عيني، خطية بعد خطية، وفراغ يقرض قلبي حتى صار جرحا نتنا. رؤيتي ليسوع كانت بمثابة الحياة تعود لميت، و كل حياتي التي عشتها سابقا اصبحت كظلال للحياة التى عشتها بعد رؤيتي له.
اهتمام صديقي باروخ باخبار يسوع لا يقل عن اهتمام زوجتي. كان هناك فارق شاسع بين حماستهما وفتوري فيما يتعلق بهذا الامر. اليوم اخذ يقص عليّ ما رآه دون ان اطلب منه. بدأ كلامه قائلا:
- اليوم، في داخل المجمع، اخذ يسوع يعلّم قائلا: "حينما تصلون لا تكرروا الكلام باطلا كالامم". لم يكد يسوع ينتهي من كلامه، و اذا مجنون صرعه الشيطان و هاج بدرجة بشعة، لكن يسوع انتهر الروح فخرج. قال البعض: انه يفعل هذا بسلطان! وقال اخرون: انه يأمر الارواح النجسة فتطيعه. وقال اخرون: ان الله ارسله ليهدم مملكة ابليس.
اخذت رقا، وضعته على الطاولة وجلست على مقعدي ذو الارجل المخروطية، وبدأت ادون ملاحظاتي في هدوء و روية. جعلت اكتب التالي:
"يوجد في وقتنا هذا رجل سائر بالفضيلة العظمى يدعى يسوع، و الشعب متخذه بمنزلة نبي، و تلاميذه يقولون انه ابن اللـه خالق السموات و الأرض. وبالحقيقة أنه يوميا يسمع عن يسوع هذا أشياء غريبة: انه يقيم الموتى و يشفى المرضى بكلمة واحدة. و هو إنسان بقوام معتدل ذو منظر جميل للغاية له هيبة بهية جدا حتى من نظر إليه يلتزم أن يحبه و يخافه، و شعره بغاية الاستواء متدرجا على اذنيه، و من ثم إلى كتفه بلون ترابى إنما اكثر ضياء. و في جبينه غرة كعادة الناصريين. ثم جبينه مسطوح و إنما بهيج، و وجهه بغير تجاعيد بأنف معتدل و فم بلا عيب. و أما منظره فهو رائق و عيناه كأشعة الشمس و لا يمكن لإنسان أن يحدق النظر في وجهه نظرا لطلعة ضيائه. فحينما يوبخ يرهب، و متى أرشد أبكى، و يجتذب الناس إلى محبته. ثم أنه بالحوار يأثر كثيرين. ومن جهة العلوم أذهل مدينة أورشليم بأسرها، لأنه يفهم كافة العلوم بدون أن يدرس شيئا منها البتة. و يمشى عريان الرأس، فكثيرون إذ يرونه يهزأون به، لكن بحضرته و التكلم معه يرجفون و يذهلون. و كثيرون من علماء اليهود يعتبرونه إلها و يعتقدون به، و كثيرون غيرهم يبغضونه و يقولون أنه ضد قيصر.
لقد اصبح يسوع و رؤساء الكهنة اعداء. و تسألوني لماذا؟ لانه انتقد فيهم رياءهم. يكره الناس الذين يجرؤن على فحص الاشياء و كشف حقيقتها. الرياء ليس هو الدين و لكن كثيرون يخلطون بينهما. و يسوع ازال القشرة الذهبية التي تغطيهم و اظهر ما تحتها من معدن رخيص. ان اخاب لم يحب ميخا، لأنه لم يتنبأ في يوم من الايام الا بالشر، و لعله احب "صدقيا بن كنعنة" المتملق اكثر. لقد كان في امكان اخاب ان ينجو من الموت، لو انه اوصد اذنيه دون التملق و التزلف، و فتحهما للنصيحة المخلصة.".
ثم لففت الرق ووضعته في الدولاب.
كان ثمة شئ فيّ يبعدني منه، و شئ اخر يقرّبني منه. شئ يعتبر افكاره غريبة، ولكنني معجب بها. احيانا اتصور اني اؤمن .. لكني.. واحيانا اخرى تختلط الامور علىّ. لا اعرف! ما زلت اشك كثيرا.
كان الصوت الذي انبعث من اعماق نفسي، من قبل، هادئا خافتا في البداية، وقد اصبح الآن هائلا مدويا، حتى خيل اليّ انه ليس صوتي كياني، او صوت ضميري، بل صوت شخص يناديني باسمي ويحدثني. ومن ثم ركعت على ركبتي وصليت:
يا اله ابينا ابراهيم،
اي اله عظيم مثلك،
انت الاله الصانع عجائب وحدك،
وفي كل حين اسمك ممجد وسط شعبك،
قطعت عهدا لشعبك،
وعلمتنا ان نطلب خلاصك العظيم،
ابنك الذي يملك من البحر الى البحر ومن النهر الى اقاصي الارض،
الذي سيسجد له كل الملوك وكل الامم تعبد له،
يشفق على المسكين و البائس و يخلص انفس الفقراء،
قدام الشمس يمتد اسمه،
مبارك اسم مجده و لتمتلئ الارض كلها من مجده،
لتتقدمنا مراحمك سريعا لاننا قد تزللنا جدا،
ايقظ جبروتك و هلم لخلاصنا،
امين.