8 أغسطس 2014

لقاء مع الناسك زوسيما


ذكرى امه التي فقدها في الرابعة من عمره لم تبرح مخيلته طيلة ايام حياته، فقد ظل يذكر وجهها و مداعباتها كما لو كانت ماثلة امامه الآن، و ربما لازمته منذ كان في الثانية - ولكنها حينئذ لا تكون سوى بقعا من نور في ظلمة حالكة - لا زال يذكر صورة العذراء وقد علقت في زاوية من زوايا الغرفة وامامها سراج مشتعل، وامه راكعة امام الصورة تنشد "مدائح العذراء" او تتوسل طالبة شفاعتها. وربما برزت من ذكريات الطفولة ايضا صورة الدير و امه تحمله معها ..

.. اخذ يجول بنظره وهو خالى الذهن ويحدق في الاضرحة المتناثرة حول الكنيسة الرئيسية بالدير. وحينما اقترب خاطب نفسه:

- " ما اجمل احواض الورد النامية هنا".

لم يكن الوقت انذاك اوان تفتح الورود، فان مجموعة من ازهار الخريف النادرة الجميلة كانت متناثرة في كل فسحة من الارض. وكان واضحا ان يدا ماهرة تعني بزراعة الزهور و تنسيقها. وكانت احواض الزهور تحيط بالكنيسة و تلامس الاضرحة.

عند الرواق خارج الصومعة كان يحتشد حوالى عشرين رجلا وامرأة. لقد بلغهم ان الناسك زوسيما سيخرج الآن، فاحتشدن واخذن يرقبن مجيئه بلهفة. وانضم هو الى هذا الحشد . حين فتح الناسك باب الصومعة لمح بداخلها منضدة للمطالعة عليها صليب وانجيل وفوقها على الحائط بعض الايقونات..

وقد لاحظ ان غالبية الزائرين ان لم يكن كلهم اذا تقابلوا مع ذلك الناسك، انما يقابلونه متجهمين قلقين و لا يلبثوا ان يخرجوا وقد اشرقت وجوههم بالسعادة .. لم يُر هذا الناسك قط صارم المظهر او مقطب المحيا بل دائم المرح والانشراح..

وقد رأى بعينيه اناس يأتون الى صومعته باطفال مرضى و يطلبون ان يضع يديه عليهم و يتلو عليهم صلواته، ثم سرعان ما يبللوا قدمي الناسك بدمع الشكر و العرفان. ويدنين منه رجالهم الذين عليهم ارواح شريرة.

لم يكن في البداية يعجب لحب الناس للناسك ويعتبر ان ارتماؤهم على قدميه وذرفهم الدموع السخينة عند رؤيتهم له امر لا يليق. ولكنه ادرك فيما بعد ان روح الانسان المتواضع الذي ارهقه التعب فضلا عن خطاياه، ان هذه الروح تجد كل العزاء في وجود انسان او شئ مقدس يركع امامه ويتعبد في هيكله وكأن هذا الفلاح يقول في سره : اذا كانت الخطية والظلم والتجارب متغلغلة بيننا، ففي هذا المكان يوجد انسان تحيط به القدسية، و بيده الحقيقة وهو عارف بها ملم باسرارها، ومادام هذا موجودا فان الحقيقة لن تضيع من الارض، وسيأت يوم نعرف فيه الحقيقة فتسود الارض كما وعدتنا الكتب المقدسة.

في البداية كان قد قرر بدافع من مسايرة عادات القوم في الدير ان يلتمس بركة الناسك. لم يكن يريد تقبيل يده ولكن ما ان رأى ما اقدم عليه الرهبان وزوار الدير حتى تراجع عن قراره واحجم عما كان يعتزم القيام به، وحياه بالانحناء حتى لامست انامله الارض ثم قبل يده وطلب بركته. تمّ هذا في جو من الشعور الصادق.


وراح يبارك النسوة اللواتي التففن حوله..

فهذه ام ابنتها اصيبت بشلل جزئي ولم تكن الابنة المسكينة تستطيع الوقوف على قدميها منذ ستة شهور بل كانت تستعمل كرسيا متحرك وضع الاب يده على رأسها وصلى من اجلها واقامها ماسكا بيدها..

واقتيدت اليه امرأة معتوهة فما ان وقع بصرها عليه حتى اخذت ترتعد و تصيح كمن جاءها المخاض فوضع الناسك طرف بطرشينه على جبينها وتلى صلاة قصيرة فاذا هي تهدأ وتسكن.

قالت احدى النساء:

- انني ابكي طفلي ايها الاب، فلقد كان عمره 3 سنوات. ان موته سبب لي هذه الفاجعة. الان ليس لي انا وزجي طفلا يقرّ اعيننا. لا سبيل الى نسيانه لقد حطم موته قلبي فما نظرت مرة الى ملابسه، او الى قميصه الصغير او حذائه، الا و انتحبت. ثم اخرج جميع بقاياه واشيائه الصغيرة فاعرضها امامي وانتحب واقول لزوجي: لقد انقضت حياتي مع موته اذ كيف عساني ان احيا معه منذ الان لست اريد شيئا من هذه الدنيا على الاطلاق".

واذا فرغت المرأة من كلامها خاطبها الناسك قائلا:

- اصغي الىّ ايتها الام، حدث ذات مرة في العصور القديمة ان قديسا مباركا رأى في الهيكل امرأة حالها مثل حالك تنتحب لوفاة وليدها الصغير وكان وحيدها وقد اخذه الله اليه. فجاء اليها وخاطبها قائلا: "هل تعلمين اية جرأة يتحلى بها الاطفال امام عرش الله ؟ حقا ليس في ملكوت السموات جرأة تفوق جرأتهم ، فهم يقولون لله تعالى : "لقد وهبتنا الحياة يا ربنا فما كدنا نسلكها حتى استرددتها منا". ولا يزالون يطلبون ويتوسلون حتى يرفعهم الله الى رتبة الملائكة. وهكذا انت ايتها الام ابتهجي وكفي عن البكاء فان طفللك في جوار الله مع الملائكة. ذلك هو حديث القديس للمرأة الباكية في العصور القديمة. ولذلك ايتها الام اعلمي ان صغيرك قائم عند عرش الله مبتهج سعيد و هو دائم الصلاة لاجلك ابتهجي وكفكفي دموعك.

اصغت المرأة الى اقوال الراهب و هي مطرقة برأسها وتنهدت بحرقة قائلة:

- "اه لو استطيع ان اراه و لو لمرة واحدة.. واراه و هو يلعب في فناء المنزل ويناديني بصوته العذب. انني ما زلت اذكر كيف كان يأتي اليّ راكضا ويصيح بصوته العذب. هذا وشاحه الصغير اما هو فلن اراه بشخصه ولن اسمع صوته ابدا "ورافقت المرأة كلامها وهي تخرج من صدرها وشاحا صغيرا موشّى، فما ان وقع بصرها عليه حتى كان جسمها كله يختلج من نحيبها، فأخفت عينيها بيديها واخذت الدموع تسيل من بين اصابعها.

لم يملك الناسك نفسه فقال:

- "انها مثل راحيل تبكي على اولادها وليس من شئ يعزيها عن فقدهم. ان هذا هو حظكن في هذه الحياة الدنيا ايتها الامهات، فالعزاء ليس مطلبكن. لا تتعزى وابكي واطلقي لدموعك العنان ولكن اذكري ايتها الام ان ابنك ملاك من ملائكة العرش وانه يراك من علو ويرى دموعك ويشير اليها امام الرب. ان دموع الثكل ستلازمك امدا طويلا ولكنها ستتحول في النهاية الى سرور هادئ. وستصبح دموعك حزنك المرير دموع عاطفة وديعة تطهر الروح سأصلي كي يسبغ الله الراحة على روح ابنك. فماذا كان اسمه؟"

- الكسي ايها الاب.

- انه اسم جميل.

- فليرح الله روحه الطاهرة.
+++

وهذه فتاة بادرها الناسك بسؤاله:

- ما اسمك؟

- ليزا.

- ماذا تعملين؟

- ممرضة

- هل جئت من مكان بعيد

- من اكثر من ثلاثمائة كم.

- هل اعترفت ؟

- نعم لقد اعترفت.

- هل تناولت القربان المقدس؟

- نعم. ولكني خائفة.. خائفة من الموت.

- لا تخش شيئا وليطمئن قلبك ولا تحزني فاذا كنت صادقة الندامة و التوبة غفر لك الله كل خطاياك. فما من خطية على هذه الارض الا و يغفرها الله لمن كان صادقا في توبته! وما من خطية يقترفها الانسان لا تسعها رحمة الله التي لا حدود لها. هل هناك خطية لا تستوعبها رحمة الله؟ اطردي من قلبك شبح الخوف. وآمني بأن الله يحبك بما لا يتصوره عقلك وبأنه يحبك مع خطيتك و بالرغم من خطيتك. لقد قيل في الانجيل ، ان فرح السماء بخاطئ واحد يتوب اكثر من تسعة وتسعون لا يحتاجون الى التوبة.. اذا ندمت فانت تحبين واذا احببت كنت مع الله. ان محبة الله تستطيع فداء الكون بأسره ومحو خطايا الناس جميعا لا خطيتك وحدك".

ولما انهى الناسك كلامه رسم شارة الصليب على جبهتها ثلاث مرات، ثم نزع عن عنقه ايقونة صغيرة ووضعها في عنقها فانحنت المرأة وهي تقول:

- لكنني اتعذب من قلة ايماني.

- قلة ايمانك بالله؟

- كلا. كلا! انني لا اجرؤ حتى ان افكر بذلك، بل قلة ايماني بالحياة الاخرى، انها لغز عظيم! و لا احد يستطيع حل هذا اللغز. اصغ اليّ! ان بيدك الشفاء. أنني اعلم انك تسبر غور النفس الانسانية.

- انني كثيرا ما اتساءل عما اذا كانت قلوب الناس مليئة بالايمان.

- انني كثيرا ما اغمض عيناي وافكر واحلم فاشعر بقدرتي على تخطي العقبات التي تصادفني. فلا تعود الجراح ولا القروح العفنة في الناس ترهبني بل اجد نفسي قادرة على تضميدها.. بل مستعدة للثم تلك الجراح يا ابتي.

- ان هذا لكثير وجميل ان تكون هذه الاحلام غالبة على تفكيرك.

لكن الفتاة تابعت كلامها وهي متدفقة بحماسة وانفعال:

- نعم ان هذا صحيح ولكن ما هو مدى تحملي لمثل هذه الحياة. انني احيانا اغمض عيناي واتساءل "هل تستطيعين يا ليزا المضي طويلا في هذا الطريق؟ واذا لم يقابلك المريض الذي تغسلين جراحه بعرفان الجميل وبدلا من ان يعترف بحسناتك عليه اساء معاملتك .. فماذا يكون موقفك؟ هل يبقى الحب متدفقا في قلبك ام لا؟ هل تدري، لقد توصلت الى تلك النتيجة وهو ان نكران الجميل هو وحده يمكن ان يضعف حبي للبشرية. وباختصار اني خادمة مأجورة واريد ان تدفع اجرتي عاجلا – اي اريد الثناء على والمبادلة بالحب والا عجزت عن حب اي انسان.

- قال الناسك انها القصة نفسها التي سمعتها من احد الاطباء. لقد حدثني بصراحة تشبه صراحتك ولو انه قد تعمد كلمات ساخرة لاذعة.

+++

كان المرض قد عرّضه في الاونة الاخيرة لنوبات من الاغماء بفعل الاجهاد وها هو وجهه علاه ذلك الشحوب الذي يسبق النوبات عادة. ومع ذلك تحامل على نفسه ووجه كلامه الي شخص يعرفه:

- هل قرأت المقالة التي كتبتها اخيرا؟

- ايهم ابتي؟

- التي ارد فيها على كتاب لاحدهم يعارض "فصل الكنيسة عن الدولة"؟

- نعم. و لكني لا اوافق بعض ما جاء بها.

- ولكن من اية وجهة ترى ذلك؟

- لقد كانت حجتي في ذلك التداخل في المبادئ الاساسية بين الكنيسة والدولة سيظل قائما الى الابد رغم تلك الحقيقة وهي انه من المستحيل ان تتمازج.

- استاء الاب وقال: لقد قرأت الكتاب الذي رددت عليه. وقد ادهشني قوله ان الكنيسة مملكة ليست من هذا العالم. ان عبارة "ليست من هذ العالم" الواردة بالانجيل لا يقصد بها ذلك ابدا. ان التلاعب بالكلمات بهذا الشكل مرفوض وغير مقبول. لقد جاء السيد المسيح لكي يبني الكنيسة على الارض. ان ملكوت السموات بالطبع ليس من عالمنا بل في السماء. ولكن الدخول اليه لا يتحقق الا عن طريق الكنيسة التي تأسست واقيمت على الارض.


ثم تطرق الى موضوع الاحكام القضائية والكنيسة، فقال:
 - هل تريد الكنيسة التخلى عن موقفنا الراهن الذي يقضي ببتر عضوها الفاسد في سبيل المحافظة على المجتمع.

- ان جميع هذه الاحكام بالنفي مع الاشغال الشاقة لا تقوّم انسانا ولا تردع مجرما واحدا.. وتكتفي الكنيسة ان تقدم النصائح الابوية و لا تهتم بمعاقبة المجرم عقابا حقيقيا.. وتعامله معاملة الاسير اكثر منها معاملة المجرم السجين. وما عساه يحدث للمجرمين يا الهي لو ان المجتمع المسيحي – اي الكنيسة – رفضهم كما يرفضهم القانون المدني؟ وما عساه يحدث لهم لو ان الكنيسة عاقبتهم بالحرمان اضافة الى عقاب القانون الارضي؟ انهم عندئذ لا يمكن ان يشعروا بتعاسة ما بعدها تعاسة.

دوستويفسكي