4 أغسطس 2014

تاجر اللالئ


كان عملي في تجارة اللالئ يقتضي كثرة الاسفار ولكن على الرغم من مشقة السفر وصعوبته في تلك الايام لكني كنت سعيدا في عملي .. اذ لا يسعد الانسان –وخاصة التاجر منا – اكثر من شعوره بشغف الناس وحبهم للبضاعة التي يجلبها لهم.

الانسان يحب اللؤلؤ عن فطرة، ولا يرجع حبه له الى غلو ثمن اللؤلؤ، بل يرجع الى جمال اللؤلؤ الهادئ..

الماس يتلألأ بقوة، وجماله يبهر العيون..

والياقوت يلمع ويتوهج..

والكهرمان يطفو جماله وينساب برقة..

والمرجان يشتعل.. والخ من الصفات التي تنسب الى بقية الاحجار الكريمة، ولكن اللؤلؤ يشع نورا هادئا رقيقا، و لايحتاج الى نقش او صناعة.

الاسرة الصغيرة:

في احد الاسفار، وبعد ان جمعت عددا كبيرا من اللالئ النادرة رجعت الى بلدتي الصغيرة التى كنت اعيش فيها.. ذهبت لاسأل عن اسرة صغيرة كانت تجاورني، وكانت الاسرة مكونة من اب و ام وطفل صغير.. كنت احب هذه الاسرة حبا عظيما، لانها كانت تمتاز بالوداة والتقوى.. ولكن لسوء حظي لم اجد احدا بالمنزل ثم علمت بعد ذلك ان هذه الاسرة الكريمة تركت المدينة و رحلت الى مكان مجهول.

مرت الايام متثاقلة فعاودني الحنين لرؤية الاسرة الصغيرة فصممت ان اسافر لابحث عنها واخذت معي هداياي التي كنت مزمعا ان اقدمها، وهي ياقوتة حمراء وزمردة خضراءة ولؤلوة ناصعة البياض.

مفاجآت الطريق:

سافرت من مدينة الى اخرى، و لكن لم اجد اثرا للاسرة.. وفي احدى ليالي الشتاء القارس وبينما كنت اسير سمعت اطفالا يبكون..

كان الصوت صادرا من كوخ صغير.. ذهبت لاستطلع الامر فوجدت امرأة جالسة وحولها خمسة اطفالا يبكون وثمة قدر يغلي على النار.. سألت المرأة عن سبب بكاء الاطفال فاجابت: انهم جائعون.. قلت: وما هذا القدر الذي على النار فردت على الفور: ان به بعض الاعشاب جمعتها من الحقل لاوهم اولادي ان بالقدر طعاما، لكي يناموا!

آلمني منظر الاطفال الجائعين، فأجرجت من جيبي الياقوتة الحمراء، واعطيتها للمرأة لتذهب سريعا وتشتري طعاما.. ولم اترك الكوخ الا وقد عادت بالطعام، فأكل الاولاد وشبعوا، وبدأوا يلعبون ويمرحون..

سرت في طريقي ومرح الاطفال يرن في اذني ويغمرني بالبهجة. والامل في العثور على الاسرة التي كنت ابحث عنها يراودني.

الرجل المريض:

ولكن سعادتي لم تدم طويلا، فقد سمعت انينا خافتا، ورأيت رجلا مريضا يئن و يتأوه من قسوة المرض وبجانبه زوجته تبكي.. وعلمت ان الرجل لا يملك ثمن الدواء.. وفي الحال وبدون تردد اخرجت الزمردة الخضراء من جيبي واعطيتها للمرأة لتشتري بها الدواءو مضيت في حال سبيلي..

وفي الطريق علمت ان الاسرة التي ابحث عنها قد رحلت الى مدينة في الجنوب، فاشرق الامل في صدري، واسرعت الخطى لعلي ادركها.

ولكني لم اوفق.. اخيرا يئست وقررت العودة لبلدتي.

السوط:

كان الحزن يملأ قلبي فجلست على الطريق لاستريح قليلا.. لم تمر الا لحظات قليلة اذ سمعت صراخا وعويلا.. ذهبت لاستطلع الامر، فوجدت رجلا مفتول الساعدين وفي يده سوط وكان يضرب به رجلا وامرأة واولادهما.. تقدمت منه و سألته عن سبب ضربه لهم. فاخبرني بأن هذا الرجل قد استدان منه مبلغا من المال و لم يرده وهو مزمع ان يؤدبهم ويأخذ اولادهما له عبيدا.

وبسرعة اخرجت اللؤلؤة من جيبي واعطيتها للرجل، فأخذها وانصرف.. ومضيت انا في طريقي.

المدينة المضطربة:

ولكن هذه المرة لم اذهب بعيدا، فقد كانت المدينة مضطربة، تعج بالناس وسمعت ضجيجا وصراخا، فتقدمت واذ بحشد هائل قد تجمع حول شاب معلق على صليب.

حاولت ان اتبين ملامح الشاب ولكن الظلام كان يغمر المكان كله وبعد برهة سمعت حديثا هامسا بين امرأتين.. كانت واحدة تصف للاخرى قسوة الصالبين وعدم نزاهة المحاكمة وجبن الحاكم ثم ازرفت المراة دموعا سخينة وهي تقول:

ان هذا المصلوب كان يشفي كل مرض وكل سقم في الشعب.

قالت الاخرى بحزن:

يا اختي ان الحق لا يموت ابدا ، و لكن هذا الشاب يموت لكي يدوس الموت، و ينقذ ها العالم البائس الغارق في الخطية..

قلت في نفسي بعد ان سمعت الحديث بينهما: عجيب امر هذا الطبيب؟ انه يشفي كل مرض و كل سقم في الشعب ثم يحكم عليه بالموت صلبا؟ هل يوجد في العالم مثل هذا الطبيب؟

الطبيب كما اعلم ينظر الى المرضى كحالات قابلة او غير قابلة للشفاء ولكن هذا الطبيب العجيب يشفي مرضاه بالمعاناة وسفك الدماء.. باكليل الشوك والجراحات. أيكون هذا الانسان هو ما تنبأ عنه اشعياء النبي "جرح لاجل معاصينا و سحق لاجل اثامنا" وها الظلام يلف الكون الما و حزنا.

اللؤلؤة الثمينة:

وفي تلك اللحظة الحزينة وبدون وعى مني. قفز الى خاطري صورة لؤلؤة ثمينة كان قد اخرجها الغواص من البحر وتهلل بها التجار دون ان يدروا من اين اتت ووقفت اتأملها بذهول..

ولعلي كنت اراها بعيون القلب كما كان يراها القديس مارافرام السرياني..

طيات من النور بلا ظلال..

ورموز بلا لسان..

وكنوز من الاسرار..

جاءت بها من حيث اتت..

من بحر عظيم لا يدرك لججه..

بلا شواطئ و بلا حدود..

ولكن اللؤلؤة امسكوا اللؤلؤة بلا محبة او رحمة وبعنف مررورا بها المخراز.

في الجلجثة:

مرت امامي هذه الصورة وانا ارى المسامير تدق في اليدين الطاهرتين..

وبسبب الامه .. اضاء العلو والعمق..

اضاء نور المعرفة ظلمة الجهل..

والشعب السالك في الظلمة ابصر نورا عظيما..

حتى اللص اليمين رأى في الصليب شجرة حياة..

ربح اللص اليمين بعد ان ربحه الايمان..

رفعه الايمان ووضعه في الفردوس..

وهذه كانت الثمرة.. وكان اللص آكلها..

بدلا من ادم!!

الهدايا:

نظرت الى الصليب وفجأة وقع بصي على ام المصلوب وهي جاثية تحت قدميه باكية فتجمدت مكاني والامل يعتصر قلبي.

هذه الام الحزينة جارتي وهذا المصلوب ابنها..

اخيرا وجدت الاسرة التي ابحث عنها لفترة طويلة..

سمعت صوتا خافتا يناديني باسمي.. كان المصلوب هو الذي يناديني قائلا لي: لا تحزن .. لقد تسلمت هداياك..

قلت بدهشة: متىى واين يا سيدي؟!!

قال: اخذت منك الياقوتة الحمراء في الكوخ الصغير،

والزمردة الخضراء في بيت المريض،

واللؤلؤة في بيت الاسرة التي سددت ديونها.

الحق اقول لك، بما انك فعلت بأحد اخوتي الاصاغر فبي قد فعلت!