15 نوفمبر 2013

وداعا يا جوهرتي!



تزوجا مباشرة بعد الانتهاء من دراستهما، وكان زواجهما حديث كل المحيطين بهما. كان هو شابا وسيما وكانت هي مثل زنبقة جميلة عطرة تحتفظ بكأسها ما استطاعت، و لكن كانت اوراقها تذبل سريعا في ظلال الموت. خدما معا في الكنيسة في "مدارس الاحد"، وكان لهما نشاطا ملحوظا في "مهرجان الكرازة" فقد اشرفت هي على خدمة المسرح، بينما اشرف هو على فريق الكورال.
بعد شهران من زواجهما قالت يوما لزوجها "انا متعبة يا يوسف!". ذهبا الى الطبيب الذي طلب اجراء بعض الفحوصات الطبية. قال بعدها الطبيب ان "الفحوصات اظهرت ضعفا شديدا في عضلة القلب، ولن يفيد العلاج، وليس هناك مجال للتدخل الجراحي، وان ماري ستعيش بضعة اشهر على الاكثر". كان يوسف يحب زوجته حبا جما فراح يعتني بها مثل عناية ام رؤوم بطفلها المريض، و حافظ عليها ازيد من حرصه على انسان عينه. كان قلبها مريضا، اما قلبه هو فكان مضطربا.. 
 ***
في صباح ذلك اليوم، جاءها بطعام الافطار تناولته وهي على فراشها .. قالت له "أتعلم يا يوسف لقد حلمت بالامس حلما جميلا!". قال لها "احكي يا عزيزتي". قالت "حلمت كأنني واقفة قرب نهر، واذا بي ارى القديس كريستوفوروس والمسيح الطفل على كتفه، وقف. جلس الطفل الى جواري. لعبنا سويا على الحشائش و الزهور، و رنمنا تراتيل عذبة، وكنت سعيدة جدا"
وانحنى كريستوفوروس الضخم ينظر اليّ وهو متكئ على عكازه.
ضفرنا اكاليل من الزهور، و كان الطفل اسرع مني في ضمها. صنعت منها صليبا، ثم اكليلا من الشوك. وضعته على رأسه وكانت بين سيقان الشوك زهور حمراء تدلت على جبينه و ذكرتني بقطرات الدم.
فجأة قال يسوع "لنفكر الان في شئ اخر. انظري وجهي. ماذا ترين؟" نظرت واذا بي ارى اولا الزارع الذي خرج ليزرع، و بعدئذ السامري الصالح، و بعدئذ الراعي الصالح الذي يحمل الحملان في حضنه. كان ممكنا ان ارى ازيد لولا ان سؤالا خالجني، قلت:
"اصحيح ان الناس اشرار لدرجة ان علقوك على الصليب و طعنوا جنبك بالحربة؟"
قال المسيح "نعم ها هي يدي، و ها هو جبيني!"
كانت العلامات حمراء كالدم فبكيت بمرارة. قال "لا تبك يا صغيرتي. لا اشعر بها الان. ان حب ابي الذي في السموات و حب اخوتي واخواتي على الارض قد ازالا هذا من زمن بعيد"
سكت لحظة .استطرد يسوع الطفل بعدها قائلا "اتودين ان يحملك قليلا كريستوفوروس الحنون؟ انه يفعل ذلك برفق. الى اي مكان تودين ان يأخذك؟"
اجبت دون ترو "ان لي اشتياقا ان ازور بيت لحم.. لكنها بعيدة جدا ثم ان هذا يوجب ان اتركك وحدك هنا"
اجاب المسيح "كلا يا ماري. ليس بعيدا كما تظنين. وانا وانت لن نفترق. ستجديني هناك ان رغبت في الذهاب"
قمت. حملني كريستوفوروس على كتفه بعيدا بعيدا جدا. وكان يتبع في النهار سحابة بيضاء ناصعة وفي الليل نجمة باهرة. انها نجمة بيت لحم. اجتزنا بلادا عديدة و سمعت ألسنة لا اعرفها. طرنا عبر جبال و بحار . كنت خائفة الا نصل، و لكن كريستوفر قال لي "لا تخافي ايتها الطفلة الصغيرة، لقد حملت سيدي العزيز الهي المسيح فلن يتعبني حملك"
بعد ساعات وصلنا الى بيت لحم...!
سار و عكازه في يده وانا على كتفه. مررنا باورشليم. بعد ذلك، لكن ليس ببعيد وقف على مدينة صغيرة تشرف على تلال بديعة . هنا وقف النجم. انها بيت لحم.
وضعني كريستوفر امام خان حقير.
فتح الباب، و اذا بالطفل يسوع هناك. امسكني بيمينه وقادني الى الداخل و قال لي "ليس هنا يا صغيرتي سوى مزود يرحب بك، و لكن يوما عندما تتعبين من الحياة سآخذك الى قصر عظيم في العلا"
وضمني الطفل يسوع بشدة و بحب جزيل. ضمني اليه وقربني من صدره و قبلني..
استيقظت وانا سعيدة. كنت اود ان اظل احلم الى الابد. قريبا سيقبلني يسوع مرحبا في قصره العلوي. 
اكتفى بتعليق صغير "يا له من حلم جميل!". وفي فكره ردد "يا بختك يا ماري لقد احتفظت بقلب طفلة"..
 ***
في مساء ذات اليوم لم تكن ماري نائمة و ان كانت مغمضة العينين، سألها برفق؟
"ماذا بك يا ملاكي الطيب؟"
نظرت اليه و اجابت "انني افكر في خطاياي"
قال "خطاياك؟!" و امسك عما كان مزمعا ان يسترسل فيه لئلا يسبب لها ألما فاضاف آه يا .. يا زوجتي العزيزة، لا يمكن ان تكون خطاياك لا عديدة و لا كبيرة"
فاسرعت تقول "نعم يا يوسف ليس احد صالحا الا واحد و هو الله. لقد قصرنا جميعا عن ادراك الكمال و الله وحده يعرف مقدار خطايانا"
 ولكن ما الذي دعاك لتذكري الان انك اخطأت ؟
نظرت اليه في اندهاش . كانت لها المقدرة و الموهبة ان تفتح عينيه في اي وقت على افكار عظيمة. عرف ما تقصد. جال ببصر زائغ في اركان الحجرة. لم تكن هناك ايقونة ترغم الانسان على الاعتراف بعدم استحقاقه مثل هذا الايقونة، ايقونة الصلبوت. نكث رأسه في خزي.
استمرت تقول و هي ترتجف من الانفعال "يا زوجي، حتى في هذه اللحظة اشعر انني ملومة، حتى هنا تهاجم الافكار الخاطئة القلب. مر على ذهني خاطر مفاجئ. اشتقت لو اعفى من الالم، و نسيت ان اضيف "لتكن مشيئتك" و هذا خطأ لانه يجب ان نسلم ذواتنا تماما لله و نحن مطمئنين، ان ابانا السماوي يعرف الافضل لنا"
ارتفع في قلبه شعور بالحزن و لكن حبس احساسه و قال برفق "ستعيشين بالتأكيد، فلماذا تحزنين قلبك بمثل هذه الافكار .. اه يا عزيزتي اذكري الحب الذي يبقيك هنا"
اجابت بابتسامة مشرقة كشعاع شمس ينير الظلام "نعم ان الحب هنا ثمين و لكن حبا افضل ينتظرني هناك"
مرت لحيظة سكون و لكنه لم يرد ان يصمت، بل لم يكن في مقدوره فصرخ:
"ان حب البقاء والحياة – يا احلى زنبقة – لا يمكن ان يكون خطأ. لقد زرع الله حب الحياة في قلوبنا فلا يمكن ان يكون خطية ما، فتمسكي بالحياة. لا تظلمي نفسك، فاني لم ار مخلوقا له روح التسليم الكامل مثلك و لا غير محب للذات مثلك، و لا صالحا مثلك"
اجابت: هذا ما تراه.. انا اعرف انك ستفتقدني كثيرا"
ساد الصمت مرة ثانية و لكنه كان سكوتا محببا الى النفس. لقد رأت ماري السماء مفتوحة! كانت علامات الرزانة على وجهها عرفت انها تصارع نفسها لكن لم يؤثر حتى اضطراب المصارعة على ثقتها بالله. كانت ترى يد ممتدة تمسك بيمينها لانني سمعتها تغمغم "لتكن لا ارادتي بل ارادتك". قامت من رقادها وجلست على الفراش وبشفتين ترتجفان قالت "لاشك ان الخطية هي التي تمنع وجود السلام الكامل. حقا انها خطية ان يتمسك الانسان بالحياة! و لكني على استعداد للذهاب.. و ها انا اشعر انني اقوى الان. دعني اقوم من الفراش..
اخذ يديها واجلسها على كرسي في الردهة. ثم ضغط برفق على يدها غير عارف كيف يصوغ كلماته وقال "يا عزيزتي ليست الدنيا هي التي ترغبّك في الحياة و لا شك ان حبك ابعد ما يكون عن الخطية، فكيف تشعرين بانك مخطئة؟
نظرت اليه و نور سماوي يشع في عينيها. شعر به حينئذ، بجماله و بالانتصار الذي يوحيه.
قالت "انني اشعر انني خاطئة و لكنني غير مضطربة لانني اثق في الله، و هو يعرف لنا الصالح" ثم قالت "هل تستطيع ان تعد الحصى جميعه – كبيره و صغيره -؟ هكذا خطايا العالم لا تعد و لا تحصى . و لكن المخلص حمل عنا اثامنا .. لقد محا الخطايا فلا اعود اضطرب بعد!"
ثم اخذت تغمغم بصوتها العذب ترتيلة من التراتيل التي تحبها. وما كان اجمل صوتها في هدوء المساء. عندما انهت ترتيلها قامت من على الكرسي متأبطة ذراعيه. ركعت على فراشها لتصلي بصوت منخفض، احتفظت ذاكرته بهذه الكلمات:
ها قد اخترت صليبك يا يسوع و تركت مسرات الدنيا،
و تجرعت الآم المرض في الكأس التى قدمت لي،
فاقبلني بين اولادك الاقوياء بضعفهم و سيّرنى نحو الجلجثة.
يا الهي ان النفس التى ترى ظلك مرة لا تخش من قوى الشر،
والعين التي تمتعت بلمحة من بهائك لا تقدر اوجاع العالم ان تغمضها.
صلت لاجله ايضا و لاجل كل احباءها. منحت السلام حينئذ و اضاء وجهها بهالة من البهاء و قامت و هي تقول "لتكن ارادتك".
ثم اوت الى الفراش. كانت متعبة جدا – متعبة حتى الموت. اغلقت عينيها. علتها صفرة! من حين لاخر كانت تشيع على وجهها ايضا حمرة مفاجئة في نوبات متتالية. اختلجت انفاسها و هي تقول له "اشكرك يا يوسف ! اني سعيدة. فليكن الرب معك!". ضمها الى صدره و ودموعه تنهمر بغزارة بقبلة مقدسة امتزج نفسه بنفسها الاخير. فاضت اخر انفاسها في تلك الليلة. ماتت وعلى وجهها ابتسامة الرضى التي للقديسات. و قد فقد الموت معها رعبه فنامت كشخص مبارك، صفراء ولكن بجمال سماوي، و يداها مكتوفتان فوق قلبها الذي لم يعرف الا المحبة و الخير. وقعت كلماتها الاخيرة على قلبه كبركة من العلاء. لم يستطيع وقفَ دموعه ثم قال بصوت يختلج "وداعا يا جوهرتي! ستسبقيني الى الفردوس".   
***

انتشر الخبر على الفيسبوك بعد وفاتها بساعات قليلة. وجاءت التعليقات على كل من عرف الخبر "وداعا يا عروس المسيح.. هنيئا لك بالفردوس.. صل لاجلنا.. اذكرينا امام عرش النعمة.. وفي صباح اليوم التالي الثانية عشرة ظهرا دقت اجراس الكنيسة بالطريقة الحزينة، واحتشد الناس لحضور صلاة الجناز. رتل الشماسة الالحان الجنائزية و تلى الكاهن الصلوات من اجل الروح المتوفاة. كان الكاهن يردد اجزاءا من المزامير بلحن حزين:
"ان سرت في وادي ظل الموت لا اخاف شرا لانك انت معي"
"للرب الارض و ملؤها. المسكونة وكل السكان فيها"..
و تمت المراسم الاخيرة و ووضع الصندوق في المقبرة ..
وضع يده على وجهه و راح يبكي في حرقة.. جاء اليه احد المعارف و راح يربت على كتفه ثم صحبه خارج فناء المقبرة..
في المنزل بعد يوم امتلأ بتلقي التعازي انسابت من فمه هذه الكلمات:


حياة قصيرة كانت حياة زوجتي، 
مثل قطرة الندى التى تسكبها اجفان الظلام ثم تجففها ملامسة النور.
كلمة لفظتها النواميس الازلية ثم اعادتها الى سكينة الابدية،
لؤلؤة قذفها المد الى الشاطئ ثم جرفها الجزر الى الاعماق،
زنبقة ما ان انبثقت من اكمام الحياة حتى اختطفها الموت،
ضيف عزيز ما ان حل حتى ارتحل، و ما فتح مصراعي الباب حتى اختفى.
مرض لعدة ايام بسبب رحيلها ولكن كان لذكراها من التأثير و القوة عليه ما يرفعه اعلى من حزن العالم. و اتاه رجاء نفى منى الحزن، انه مهما كثر حزنه على الارض فان المكان معد حيث يلتقي بها وحيث لايوجد حزن و لا ألم بعد و لا يسود الموت.